المسائل المستحدثه

اشارة

سرشناسه:روحانی، محمدصادق، - 1303

عنوان و نام پديدآور:المسائل المستحدثه/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی

مشخصات نشر:قم : دارالکتاب ، 1414ق. = 1995م. = 1374.

مشخصات ظاهری:330 ص

شابک:2500 ریال

يادداشت:عربی

يادداشت:چاپ چهارم

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع:مسائل مستحدثه

موضوع:فتواهای شیعه -- قرن ق 14

رده بندی کنگره:BP198/5/ر9م 5 1374

رده بندی دیویی:297/379

شماره کتابشناسی ملی:م 84-5210

ص :1

اشارة

المسائل المستحدثه

تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

المقدمة

و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين ، و اللعن الدائم المؤبّد على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام الدين .

1- بما أنّ شريعة الإسلام الخالدة ، هي خاتمة الشرائع الإلهيّة ، لذلك تحتّم أن تتّسع قوانينها و أحكامها بمقدار ما تتّسع له حدود الزمان و المكان من التواجد البشري ، و ما يكتنف وجوده من مظاهر الرقيّ و التطوّر .

و هذا - لعمري أحد أسرار إعجاز هذه الرسالة الخاتمة ، و برهان ناصع على كونها مسك ختام السلسلة الإلهيّة المباركة ، التي كان فاتحة وجودها نبيّ اللّه آدم (ع) ، و خاتمة وجودها أشرف أنبياء اللّه تعالى ، و أفضل رسله ، نبيّ القرآن ( محمّد ) (ص) .

2- و من هنا تولّد فقه للمسائل المستحدثة ، أعني بها : المسائل التي لم تكن موضوعاتها موجودة في زمن المشرّع ، كمسائل زراعة الأعضاء ، أو كانت موجودة و لكن طرأت عليها في المرحلة الفعليّة بعض التطوّرات ، التي أوجبت تكوين رؤية جديدة حول موقعها في

ص:7

منظومة التشريع ، كمسألة بيع الدم .

و إنّ قدرة الفقه الإسلامي على استيعاب هذه المسائل ، و معالجتها معالجة دقيقة من خلال القرآن الكريم و السنّة المطهّرة ، لدليل واضح على كون شريعة الإسلام الخالدة هي الشريعة الخاتمة ، التي تستطيع من خلال سعة حدود دائرتها القانونيّة أن تستوعب كلّ جديد حادث ، لتضعه في موقعه المناسب له في لائحة التشريع .

3- و هذا الكتاب الماثل بين يديك ( فقه المسائل المستحدثة ) لأحد أكابر فقهاء العصر ، يحكي لك حقيقة ما ذكرناه من أصالة التشريع الإسلامي و شموليّته ، كما يحكي في الوقت نفسه عن مدى الإبداع العلمي ، و قوّة الفقاهة ، و دقّة تطبيق الكبريات على صغرياتها ، لدى مؤلّفه المعظّم سماحة سيّدي الاُستاذ الروحاني ( دامت بركات وجوده ) .

و قد برزت أهمّية هذا الكتاب الشريف من خلال تعدّد طبعاته ، و نفوذ نسخه ، و اعتماده مرجعاً أساسيّاً لأكثر مَن كتب في فقه المسائل المستحدثة ، أو عالجها معالجة درسيّة حوزويّة .

و كان من نِعم اللّه - التي لا تحصى علَيَّ : أن شرّفني سماحة مولاي الاُستاذ ( دام ظلّه ) بمراجعة هذا الكتاب ، و إعداده للطباعة و النشر للمرّة الخامسة ؛ نظراً لندرة نسخه ، و عدم مناسبة صورته السابقة مع تقنية الطباعة الحديثة .

فبذلت جهدي ، و استفرغت طاقتي في ترقيم الكتاب ، و تخريج الآراء الفقهيّة - المذكورة فيه من خلال مصادرها الأساسيّة ، و تطبيق التخريجات الموجودة فيه للروايات الشريفة على مصادر تخريجها ،

ص:8

مضافاً إلى عنونة بعض مطالب الكتاب عنونة جديدة ، و عرض بعض الروايات المشار إليها في مطاويه ، و غير ذلك ممّا يتوقّف عليه إعداد الكتاب و إخراجه .

4- و يشرّفني - و أنا في نهاية هذه المقدّمة أن اقدّم ثواب ما بذلته من الجهد في إعداد هذا الكتاب هديةً متواضعة إلى سماحة سيّدي الاُستاذ ( دامت بركات أيّام وجوده ) تقديراً لبعض جهوده ، و وفاءً لبعض أياديه .

سائلاً من المولى سبحانه و تعالى أن يطيل في عمره الشريف ، و يمتّعنا بطول بقائه ، و يوفّقنا لأداء بعض حقوقه .

و آخر دعوانا أنّ الحمد للّه ربّ العالمين ، و صلّى اللّه على أفضل بريّته ، و أشرف خلقه محمّد و آله الطاهرين ، و اللعنة الدائمة المستمرّة على أعدائهم و غاصبي حقوقهم أجمعين أبد الآبدين .

أقلّ تلامذة المؤلّف

ضياء السيّد عدنان الخباز القطيفي

ليلة الجمعة 1425/4/22ه

حرم آل محمّد (ع) -قم المقدّسة

ص:9

ص:10

مقدّمة المؤلّف

الحمد للّه على ما أولانا به من التفقّه في الدين ، و الهداية إلى الحقّ ، و أفضل صلواته ، و أكمل تسليماته على رسوله صاحب الشريعة الخالدة ، الكفيلة بإسعاد المجتمع ، و معالجة مشاكله ، و على آله العلماء باللّه ، و الاُمناء على حلاله و حرامه ، سيّما بقيّة اللّه في الأرضين عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

و بعد : فمنذ عدّة سنين و أنا احاول الكتابة عمّا يستفاد من الكتاب و السنّة حول المسائل المستحدثة التي اقتضتها طبيعة عصورنا هذه ، و لم تكن موجودة في عصر صاحب الشريعة السماويّة الباقية ، و عصور أهل بيت العصمة من ذرّيّة الرسول (ص) ، و بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منها .

و في أثناء هذه المدّة نُبئتُ أنّه عقدت لبحثها المؤتمرات ، و أدلى فيها ذوو الآراء بآرائهم ، و على رغم ما تناولها من البحث ، و تعدّد الآراء ، فإنّها لا تزال غضَّة .

و أخيراً اجتمع جملة من الأفاضل ، و سألوني أن أجعل تلك المسائل محوراً للبحث ، فأجبت مسئولهم ، و نزلت عند رغبتهم ،

ص:11

و ألقيت في أيّام العطلة ( من شهر رمضان المبارك سنة 1384ه ) بعض المحاضرات في تلك الموارد ، و بيّنت حكم الشريعة الإسلاميّة بالنسبة لكلّ مشكلة منها ، و كنت ادوّن ما ألقيه إليهم في محاضراتي ، فلمّا تمّ تأليف الكتاب رأيت من الأوْلى نشره و إخراجه إلى عالم الظهور .

و الحمد للّه ربّ العالمين

محمّد صادق الحسيني الروحاني

ايران / قم / الحوزة العلميّة

سنة 1391ه

ص:12

فقه

المسائل المستحدثة

تقرأ في هذا الكتاب بحوثاً فقهية استدلاليّة حول :

التلقيح الصناعي السرقفليّة

الأوراق النقديّة الأوراق التجارية (الكمبيالات)

الحوالات المستحدثة أعمال البنوك

عقد التأمين أوراق اليانصيب

الشوارع المفتوحة التشريح

زرع الأعضاء الذبح بالأجهزة الحديثة

تحديد النسل و تنظيمه وظيفة ركّاب الطائرة

صلاة و صيام أهل القطبين بيع المذياع و التلفزيون

الكحول الصناعيّة التصوير الفوتغرافي

حقّ التأليف حقّ امتياز نشر الأخبار

المباراة

ص:13

ص:14

المسألة الاُولى التلقيح الصناعي

اشارة

و تقرأ فيها :

حقيقة التلقيح و تأريخه

حكم التلقيح الصناعي في الشريعة الإسلاميّة

أحكام الحمل الناتج عن التلقيح الصناعي في الشريعة الإسلاميّة

حكم إلحاق الحمل بالزوج

حكم إلحاق الحمل بالزوجة

حكم إلحاق الحمل بصاحب الماء

حكم زواج صاحب الماء بالحمل إن كان انثى

ص:15

ص:16

من الموضوعات المستحدثة : التلقيح الصناعي ، و قد كثر البحث عنه في المجامع العالميّة ، فأحاله مجلس العموم البريطاني إلى لجنة مختصّة لبحثه ، و في فرنسا قال الأطباء : إنّه جائز إذا كان بموافقة الزوجين ، و في إيطاليا أصدر البابا أمراً بالتحريم ، و في مصر حكم الشيخ شلتوت بأنّ التلقيح الصناعي أفظع جرماً من التبنّي .

و البحث عن هذا الموضوع من جهات :

1 - حقيقة التلقيح و تأريخه .

2 - حكم التلقيح الصناعي في الشريعة المقدّسة .

3 - حكم إلحاق الحمل الناتج عن التلقيح بكلّ من : الزوج ، و الزوجة ، و صاحب الماء .

4 - حكم زواج صاحب الماء بالحمل الناتج عن التلقيح إن كان انثى .

حقيقة التلقيح و تأريخه :

من المعلوم أنّ قصد الإنجاب عن طريق التلقيح موجود منذ القِدم ، و قد استخدموه في النبات و الحيوان ، و حصلت منه ثمار جيّدة ، و أنواع حسنة من الحيوان ، و قد دفعهم ذلك إلى إجراء التجارب التلقيحيّة على المرأة بماء الرجل ،

ص:17

و فعلاً نجحت هذه التجارب ، و تكوّن به الجنين ، و استكمل حياته الرحميّة ، و خرج إنساناً سوي الخلقة ، و بعد هذه التجارب اتّخذ سبيلاً لتحقيق الرغبة في الولد إذا كان الزوج عقيماً لا يولد له ، بأن تؤخذ نطفة رجل أجنبي ، و تلقّح المرأة تلقيحاً صناعياً بها دون مقاربة .

حكم التلقيح الصناعي في الشريعة الإسلاميّة :

إن كان التلقيح بماء الرجل لزوجته ، كان ذلك عملاً مشروعاً - على ما ستقف عليه و إن كان بماء الأجنبي ، فما استدلّ به ، أو يمكن أن يستدلّ به لحرمته وجوه :

الوجه الأوّل : إنّ الآية الكريمة : ( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) (1)تدلّ على ذلك ، فإنّها متضمّنة للأمر بحفظ الفرج ، و لم يذكر فيها متعلّق الحفظ ، كما لم يخصّص بالمقاربة ، و هذا آية العموم ؛ لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، فمقتضى عموم الآية الشريفة لزوم حفظ العضو من كلّ شيء حتّى التلقيح .

و فيه : إنّ الظاهر من الآية الشريفة لزوم حفظ العضو من الغير ، أعمّ من المقاربة و النظر و غيرهما ، و لا تدلّ على لزوم حفظه على المرأة من نفسها أو زوجها ، فتصرُّفُ أحدهما فيه و لو بإدخال جسم فيه ، و إفراغ ماء أو جسم سيّال آخر فيه ، لا يكون مشمولاً للآية الكريمة .

و عليه : فإذا اخذت نطفة رجل أجنبي ، و افرغت في الرحم عن طريق جسمٍ ما ، فإنّ إدخال ذلك الجسم الجامد المشتمل على النطفة في العضو ، سواء كان بيد الزوج أم لم يكن لا يكون حراماً ، و إفراغ النطفة في الرحم لا تكون الآية الشريفة

ص:18


1- 1) سورة النور : الآية 31 . [1]

مربوطة به ، مع أنّه قد ورد في النصوص تفسير هذه الآية بأنّ المراد منها : الحفظ من النظر خاصّة ، و أمّا الآيات الاُخر الواردة في حفظ الفرج ، و هما آيتان في سورة المعارج و المؤمنون : ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1)، فهي مع اختصاصها بالرجل ، ظاهرة فيما ذكرناه ، سيّما بقرينة ما في ذيلها .

الوجه الثاني : النصوص المتضمّنة لحرمة الإنزال في فرج المرأة المحرّمة ، الدالّة على حرمة جعل نطفة الأجنبي في الرحم ، و منها :

خبر عليّ بن سالم ، عن الإمام الصادق (ع) : « إنَّ أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه » (2).

و مرسل الصدوق (قدس سره) ، قال : قال النبيّ (ص) : « لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه عزّ و جلّ من رجل قتل نبيّاً ، أو إماماً ، أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه قبلة لعباده ، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً » (3).

و فيه : إنّ الظاهر منها مباشرة الأجنبي في ذلك ، الظاهر في مقاربته إيّاها ، مع أنّها متضمّنة للعقاب على إفراغ الماء في الفرج المحرّم عليه ، و لا تدلّ على أنّه حرام مطلقاً ، فلا يصحّ الاستدلال بها في المقام .

الوجه الثالث : إنّا علمنا من طريقة الشرع ، و تحذيره و تشديده في أمر الفروج ، و مبدأ تكوّن الولد ، أنّها لا تستباح إلّا بإذن شرعي ، و مجرّد احتمال الحرمة كافٍ

ص:19


1- 1) سورة المؤمنون : الآيات 5 - 7 ، و : [1]سورة المعارج : الآيات 29 - 31 . [2]
2- 2) الوسائل : الباب 4 من أبواب النكاح المحرّم ، الحديث 1 . [3]
3- 3) الوسائل : الباب 4 من أبواب النكاح المحرّم ، الحديث 2 . [4]

في وجوب الكفّ و الاحتياط ، فلاحظ :

صحيح شعيب الحدّاد ، قال : قلت لأبي عبد اللّه (ع) : رجل من مواليك يقرؤك السلام ، و قد أراد أن يتزوّج امرأة ، و قد وافقته ، و أعجبه بعض شأنها ، و قد كان لها زوج فطلّقها على غير السنّة ، و قد كره أن يُقدم على تزويجها حتّى يستأمرك ، فتكون أنت تأمره ، فقال أبو عبد اللّه (ع) : « هو الفرج ، و أمر الفرج شديد ، و منه يكون الولد ، و نحن نحتاط ، فلا يتزوّجها » (1).

و خبر العلاء بن سيّابة ، عن الإمام الصادق (ع) : عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يزوّجها من رجل - إلى أن قال : فقال (ع) : « إنّ النكاح أحرى ، و أحرى أن يحتاط فيه ، و هو فرج ، و منه يكون الولد » (2).

و تقريب الاستدلال بها : أنّه علّل عدم جواز النكاح بمطلوبيّة الاحتياط و لزومه في هذا الباب ، من ناحية أنّ منه يكون الولد ، و مقتضى عموم العلّة لزوم الاحتياط فيما هو مبدأ تكوّن الولد ، و عليه : فلو شكّ في جواز التلقيح الصناعي لا سبيل إلى الرجوع إلى البراءة ، بل المرجع هو أصالة الاحتياط المتّفق عليها في هذا الباب ، فالأظهر عدم جواز التلقيح بنطفة رجل أجنبي .

حكم إلحاق الحمل الناتج عن التلقيح بالزوج :

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ الحمل - لو تحقّق بمن يلحق ، و الكلام فيه في موارد :

المورد الأوّل : حكم إلحاق الحمل بالزوج

لا إشكال في أنّه إذا لقّحت المرأة بنطفة الأجنبي و قاربها زوجها ، و احتمل تكوّن

ص:20


1- 1) الوسائل : الباب 157 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 157 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 3 . [2]

الولد من ماء الزوج ، فالحمل يكون ملحقاً بالزوج ؛ لقاعدة الفراش المستفادة من قوله (ص) : « الولد للفراش » و الذي وصل إلينا بالأخبار المستفيضة ، و قد استدلَّ به المعصومون (ع) في أبواب متفرّقة (1).

إنّما الكلام فيما إذا لم يحتمل تكوّن الولد من ماء الزوج ، إذ قد يتوهّم أنّ مقتضى عموم قوله (ص) : « الولد للفراش » إلحاقه بالزوج .

و بيان المقصود من قاعدة الفراش : و توطئة لبيان ما هو الحقّ ، يحسن بنا أن نشرح الحديث الشريف : « الولد للفراش و للعاهر الحجر » .

أمّا قوله (ص) : « الولد للفراش » فيحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أنّ الولد لصاحب الفراش ، و هو الزوج أو المولى .

ثانيهما : ما عن المصباح المنير (2)، و هو أنّ الفراش : الزوج و الزوجة ؛ لأنّ كلّ واحد من الزوجين يسمّى فراشاً للآخر ، كما سمّي كلّ واحد منهما لباساً للآخر (3)، و عليه : فلا يحتاج إلى التقدير كما في الأوّل .

و لا يعتبر في الزوجة - بخلاف الأمة أن يعلم بالدخول ؛ إذ الفراش يصدق بدون الوطء ، بل لو علم بعدمه يلحق به الولد لصدق الفراش بالعقد ، غاية الأمر مع احتمال الإنزال كما يشهد به خبر أبي البختري (4)الآتي ، و غيره .

و المعروف بين الأصحاب : أنّ قاعدة الفراش قاعدة مضروبة لمقام الشكّ

ص:21


1- 1) لاحظ : الوسائل : الباب 58 من أبواب نكاح العبيد و الإماء .
2- 2) المصباح المنير : [1] مادة « فرشتُ » .
3- 3) في قوله تعالى : ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) سورة البقرة : الآية 187 . [2]
4- 4) الوسائل : الباب 15 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 1 . [3]

في كون الولد للزوج ، و لذا اشترط الأصحاب للحقوق الولد بالزوج شروطاً ، منها : احتمال الإنزال ، و قد دلّت عليه مجموعة من النصوص .

منها : خبر الإمام جعفر بن محمّد (ع) المروي عن قرب الإسناد ، عن أبيه(ع) ، عن أمير المؤمنين (ع) : جاء رجل إلى رسول اللّه (ص) فقال : كنت أعزل عن جارية لي ، فجاءت بولد ، فقال (ص) : « إنّ الوكاء قد ينفلت » ، فألحَقَ به الولد (1)، و لو كان مجرّد تحقّق الفراش كافياً في إلحاق الولد لم يكن وجه لتعليله (ص) الإلحاق بأنّ الوكاء قد ينفلت ، الذي هو كناية عن أنّ المنيّ قد يسبق من غير أن يشعر به .

و لا مفهوم له كي يدلّ على انحصار إلحاق الولد بالفراش ، و أنّه لا يلحق مع عدمه ، كما لا يخفى .

و أمّا قوله (ص) : « و للعاهر الحجر » ، فيحتمل فيه معنيان :

أحدهما : كون الحجر كناية عن الحرمان و الخيبة ، بمعنى أنّه لا شيء له ، كما يقال : له التراب .

ثانيهما : أنّه كناية عن الرجم بالأحجار .

و لكنّ الثاني بعيد ؛ إذ العاهر إن كان محصناً يرجم بالأحجار ، و إلّا يجلد ، و حمله فيه على إرادة العنف عليه و الإغلاظ به ، بتوفيته الحدّ الذي يستحقّه من الجلد ، بعيد .

فالمتعيّن هو الأوّل ، و العاهر هو الزاني ، و على ذلك فالمستفاد من الخبر : أنّ الولد يلحق بالزوج مع إمكانه ، و لا يلحق بالزاني .

و على هذا التمهيد ، فمع العلم بأنّ الحمل ليس من ماء الزوج ، بل من النطفة الملقّحة

ص:22


1- 1) الوسائل : الباب 15 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 1 . [1]

لا وجه للإلحاق به ، و التبنّي في الإسلام غير جائز : ( وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ) (1).

حكم إلحاق الحمل الناتج عن التلقيح بالزوجة :

المورد الثاني : حكم إلحاق الحمل

و الظاهر إلحاقه بها ، و كونها أُمّاً له ؛ إذ في صورة الزنا و إن لم يلحق الولد باُمّه ، كما هو المشهور ، خلافاً للصدوق (2)و أبي عليّ (3)و أبي الصلاح (4).

و يشهد به صحيح عبد اللّه بن سنان ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سألته فقلت له : جعلت فداك ، كم دية ولد الزنا ؟ قال : « يعطى الذي أنفق عليه ما أنفق عليه » ، قلت : فإنّه مات و له مال ، مَن يرثه ؟ قال (ع) : « الإمام » (5).

و خبر محمّد بن الحسن القمّي ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (ع) معي ، يسأله عن رجل فجر بامرأة ، ثمّ إنّه تزوّجها بعد الحمل ، فجاءت بولد هو أشبه خلق اللّه به ؟ فكتب بخطّه و خاتمه : « الولد لغية لا يورث » (6).

فإنّ إطلاقهما ، كعموم التعليل في الأخير يشمل الاُمّ .

و يشهد له أيضاً صحيح الحلبي ، عن الإمام الصادق (ع) : أيّما رجل وقع

ص:23


1- 1) سورة الأحزاب : الآية 4 . [1]
2- 2) المقنع : 505 .
3- 3) فتاوى ابن الجنيد : 337 .
4- 4) الكافي : 377 . [2]
5- 5) الوسائل : الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه ، الحديث 3 . [3]
6- 6) الوسائل : الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه ، الحديث 2 . [4]

على وليدة قوم حراماً ، ثمّ اشتراها فادّعى ولدها ، فإنّه لا يورث منه شيء ، فإنّ رسول اللّه (ص) قال : « الولد للفراش و للعاهر الحجر ، و لا يورث ولد الزنا إلّا رجل يدّعي ابن وليدته » (1)، و نحوه غيره .

و الاستدلال للإلحاق بخبر إسحاق بن عمّار ، عن جعفر (ع) ، عن أبيه (ع) : أنّ عليّاً (ع) كان يقول : « ولد الزنا و ابن الملاعنة : ترثه امّه ، و إخوته لاُمّه ، أو عصبتها » (2).

و بما عن يونس : « إنّ ميراث ولد الزنا لقرابته من قِبل امّه على ميراث ابن الملاعنة » (3)غير صحيح ؛ لضعف سند الأوّل بغياث بن كلوب و غيره ، و الوقف إلى الراوي من دون نسبته إلى الإمام في الثاني ، أضف إلى ذلك موافقتهما للعامّة ، فيحملان على التقيّة ، أو على كون أُمّه زانية ، فإنّها و أقاربها يرثونه حينئذٍ لثبوت النسب الشرعي بينهم ، فيكون كولد الملاعنة .

و لكن في غير مورد الزنا ، و إن كان مبدأ تكوّن الولد على وجه غير شرعي ، كما لو جامع امرأته و هي حائض ، أو في صوم رمضان ، أو جامعها و ساحقت جارية فحبلت الجارية من ماء الرجل المنتقل إليها ، أو غير ذلك من الموارد ، و الولد يكون ملحقاً بها لتكوّنه في رحمها ، و يسمّى ولداً لغةً و عرفاً ، و لم يدلّ دليل شرعي على خلافه ؛ لاختصاص ما دلّ على نفي الولد بالزنا ، بل مقتضى عموم الآية الكريمة : ( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ ) (4)، حيث جعل المولدة مطلقاً أُمّاً :

ص:24


1- 1) الوسائل : الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه ، الحديث 9 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة و ما أشبهه ، الحديث 6 . [3]
4- 4) سورة المجادلة : الآية 2 . [4]

كونُ المتولّد ابناً أو بنتاً شرعاً على حسب القانون اللغوي .

حكم إلحاق الحمل الناتج عن التلقيح بصاحب الماء :

المورد الثالث : حكم إلحاق الحمل بصاحب النطفة - إن كان معلوماً و لم يحتمل تكوّن الولد من ماء الزوج .

و الظاهر لحوقه به ، و قد أفتى كثير من الأصحاب كالشيخ (ره) في محكي النهاية (1)و أتباعه ، و الشهيد الثاني في المسالك (2)، و المحقّق في الشرائع ، و غيره (3)، و سيّد الرياض (4)، و صاحب الجواهر (5)، و غيرهم (6)بإلحاق الولد بصاحب الماء لو وطء زوجته فساحقت بكراً ، فحملت ، و تلك المسألة و المقام من باب واحد ، بل الإلحاق في المقام أوْلى من الإلحاق فيها .

و شاهد اللحوق به : انخلاقه من مائه ، و تسميته ولداً لغةً ، و الأصل عدم النقل ، و قوله (ص) : « للعاهر الحجر » مختصّ بالزاني ، و قوله (ص) : « الولد للفراش » قد عرفت أنّه جعل لقاعدة في ظرف الشكّ ، و لا مفهوم له كي يدلّ على انتفاء النسب بانتفاء الفراش .

ص:25


1- 1) )النهاية : 707 .
2- 2) المسالك : 421/14 .
3- 3) الشرائع : 161/4 . و المختصر النافع : 97 .
4- 4) الرياض : 105/10 . [1]
5- 5) جواهر الكلام : 396/41 . [2]
6- 6) كالفاضل الآبي (قدس سره) في كشف الرموز : 563/2 . و العلّامة الحلّي (قدس سره) في قواعد الأحكام : 538/3 . و مختلف الشيعة : 182/9 . و الشهيدين (قدس سره) في اللمعة الدمشقيّة : 161/9 . و [3]الفاضل الهندي (قدس سره) في كشف اللثام : 409/2 .

و بالجملة : يصدق الولد عليه عرفاً ، و المانع الشرعي منتفٍ ؛ إذ ليس إلّا الزنا ، و التلقيح ليس منه لا عرفاً و لا شرعاً .

و يمكن أن يستشهد له بما ورد في المساحقة ، التي يكون الإلحاق في المقام أوْلى منه فيها ، كصحيح ابن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه (ع) يقولان : « بينما الحسن بن عليّ (ع) في مجلس عليّ أمير المؤمنين (ع) ؛ إذ أقبل قوم فقالوا : يا أبا محمّد ، أردنا أمير المؤمنين (ع) ، قال : و ما حاجتكم ؟ ، قالوا : أردنا أن نسأله عن مسألة ، قال : و ما هي ؟ تخبرونا بها ؟ قالوا : امرأة جامعها زوجها ، فلمّا قام عنها قامت بحموتها (1)فوقعت على جارية بكر فساحقتها ، فوقعت النطفة فيها ، فحملت ، فما تقول ؟ فقال الحسن (ع) : يعمد إلى المرأة ، فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة ؛ لأنّ الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها ، ثمّ ترجم المرأة لأنّها محصنة ، و ينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها ، و يردّ إلى أبيه صاحب النطفة ، ثمّ تجلد الجارية الحدّ (2).

و قريب منه خبر إسحاق بن عمّار ، عن الإمام الصادق (ع) (3).

و اوردَ على الاستدلال بهما بوجهين :

أحدهما : إنّ الولد غير مولود على فراش الرجل ، فكيف يصحّ إلحاقه ؟

و فيه : إنّه قد عرفت أنّ قاعدة الفراش قاعدة ظاهريّة مضروبة لحال الشكّ ، و لا تدلّ على نفي الولد بانتفاء الفراش ، فراجع ، مع أنّه لو كان لدليلها مفهوم ،

ص:26


1- 1) حَموة الشيء : شدّته و سَوْرَته .
2- 2) الوسائل : الباب 3 من أبواب حدّ السحق و القيادة ، الحديث 1 . [1]
3- 3) الوسائل : الباب 3 من أبواب حدّ السحق و القيادة ، الحديث 2 .

و كان دالّاً على انتفائه ، كان الخبران أخصّ منه فيقيّد إطلاقه بهما .

ثانيهما : إنّ أصحابنا لا يرجمون المساحِقة ، و لا يرون مهراً لبغي ، و الخبران بما أنّهما متضمّنان لرجم المساحِقة ، و إلزام المهر على الفاعلة مع أنّها لم تُكره المفعولة ؛ و لذا تجلد ، لا يكونان معمولاً بهما .

و فيه :

أوّلاً : إنّ المساحقة إذا كانت محصنة ترجم عند الشيخ (1)، و القاضي (2)، و ابن حمزة (3)، و مال إليه في المسالك (4)، و أمّا المهر فالوجه فيه كونها سبباً في ذهاب العذرة ، و ديتها مهر نسائها ، و ليست هي كالزانية في سقوط دية العذرة ؛ لأنّ الزانية أذنت في الافتضاض ، بخلاف هذه .

ثانياً : عدم العمل ببعض الخبر جمعاً بينه و بين أخبار أُخر ، لا يوجب عدم العمل ببعضه الآخر الذي لا معارض له .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه في هذه الجهة : أنّه لو حملت المرأة بالتلقيح ، فإن كان ذلك بتلقيح نطفة الزوج ، فلا إشكال في الإلحاق بهما ، و إن كان بتلقيح نطفة الأجنبي ، فالمرأة إن كان لها زوج و قاربها ، و احتمل تكوّن الولد من مائه ، يلحق الولد

ص:27


1- 1) النهاية : 706 .
2- 2) المهذّب : 531/2 .
3- 3) الوسيلة : 413 .
4- 4) حكى ميله إليه سيّد الرياض (قدس سره) في موسوعته الفقهيّة : رياض المسائل : 21/16 ، و [1]لكن الذي يظهر من عبارة المسالك [2]خلاف ذلك ، حيث يقول (قدس سره) في ( 413/14 ) : و الحدّ في السحق مائة جلدة . . محصنة كانت أو غير محصنة ، للفاعلة و المفعولة ، و قال في النهاية : ترجم مع الإحصان ، و تحدّ مع عدمه ، و الأوّل أوْلى . و اللّه العالم .

بالزوجين ، و إن لم يحتمل ذلك لا يلحق بالزوج ، بل يثبت النسب بين الحمل و امّه و صاحب النطفة ، و كذلك إن لم يكن لها زوج يثبت النسب بين الحمل و بين الأبوين .

حكم زواج صاحب الماء بالحمل إن كان انثى :

و على ما اخترناه من إلحاق الولد بصاحب الماء ، فلا إشكال في حرمة الحمل إن كان بنتاً عليه .

و أمّا على القول الآخر الذي ذهب إليه بعض فقهاء الطائفة (1)، فهل تحرم عليه أم لا؟

قد يقال : بالتحريم ؛ لعدّة جهات :

الاُولى : من جهة أنّ قبح نكاح الإنسان ببنته لغةً ، و إن لم تكن البنتيّة شرعيّة ، أو اخته كذلك ، ذاتي و العقل مستقلّ به ، و في الخبر (2)الوارد في بدوّ النسل من ذرّيّة آدم ، عن الإمام الصادق (ع) التصريح بذلك ، بل فيه : « إنّ بعض البهائم تنكرت له اخته ، فلمّا نزا عليها و نزل كُشفَ له عنها ، و علم أنّها اخته ، أخرجَ غرموله ، ثمّ قبض عليه بأسنانه ، ثمّ قلعه ، ثمّ خرّ ميّتاً » ، و بالملازمة بين حكم العقل و الشرع تستكشف الحرمة الشرعية .

الثانية : أنّ مدار تحريم النسبيات السبع على اللغة ، و هي لانخلاقها من مائه بنت له لغة ، و إن لم تكن بنتاً له شرعاً .

و الثالثة : أنّ الإجماع قائم عليه .

ص:28


1- 1) ذهب إليه ابن إدريس (قدس سره) في السرائر : 465/3 .
2- 2) علل الشرائع : /1 الباب 17 - باب كيفيّة بدوّ النسل ، الحديث 1 . [1]

و الرابعة : أنّها كافرة قياساً لها بولد الزنا ، و لا يحلّ لمسلم نكاحها .

و الخامسة : أنّ الإنسان لا ينكح بعضه بعضاً ، كما ورد في بعض النصوص (1)النافية لخلق حواء من آدم .

و السادسة : أنّ الأصل في هذا الباب كما تقدّم هو الاحتياط ، فالشكّ في الجواز مع عدم الدليل عليه ، يكفي في الحكم بالحرمة .

و لكن لو كان دليل يدلّ على نفي الولديّة ، لكان أكثر هذه الأدلّة ، و هي الأوّلان و الخامس باطلة ؛ إذ المنفي شرعاً كالمنفي عقلاً .

و ما يبقى واضح الدفع :

إذ الإجماع لا يستند إليه مع معلوميّة مدرك المجمعين .

و ولد الزنا لا يكون كافراً ، فضلاً عمّن تولّد بالتلقيح .

و أصالة الاحتياط لا يرجع إليها في مقابل العمومات .

إلّا أنّه على فرض تسليم عدم الحكم بالنسب الشرعي لعدم الفراش ، و بما أنّه لا دليل على نفي النسب ، بحيث يكون له إطلاق بالإضافة إلى جميع الأحكام ، فالرجوع إلى عموم ما دلَّ على تحريم النسبيات السبع (2)، أو أصالة الاحتياط هو المتعيّن .

فالأظهر حرمتها عليه .

ص:29


1- 1) علل الشرائع : /1 الباب 17 - باب كيفيّة بدوّ النسل ، الحديث 1 .
2- 2) و هو قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ) سورة النساء : الآية 23 . [1]

ص:30

المسألة الثانية السرقفليّة

اشارة

و تقرأ فيها :

تأريخ السرقفليّة و أنواعها

حكم النوع الأوّل من السرقفليّة

بحث حول حقيقة الحقّ و أقسامه

حكم النوع الثاني من السرقفليّة

ص:31

ص:32

من الموضوعات المستحدثة : السرقفليّة ، التي هي كلمة فارسيّة ترمز إلى ما تعارف في هذا الزمان ، من أخذ مقدار من المال بإزاء تفويض المالك أو المستأجر حقّ إيجار العين إلى أي شخص شاء ، و في أيّة مدّة أراد ، و بأيّة قيمة توافقا عليها .

و الكلام فيها في مواضع :

تأريخ السرقفليّة و أنواعها :

الموضع الأوّل : تأريخها ، و الظاهر أنّها وليدة الأيّام المتأخّرة ، و الأصل فيها أنّ مجلس النوّاب في إيران وضع قانوناً في باب الإجارة ، و هو أنّه ليس للمالك المؤجّر إخراج المستأجر ، و أخذ العين المستأجرة منه بعد انقضاء مدّة الإجارة ، و لا أن يزيد في كرائها خلافاً للقانون الشرعي ، و اتّفق بعد ذلك غلاء الأسعار ، و بالطبع زاد كراء الأملاك ، فاضطرّ ملّاك الأماكن من الدكاكين و الفنادق و المنازل و غيرها - لأجل تنمية الثروة أن يؤجّروا أماكنهم بأنقص من كرائها ، و يفوّضوا أمر الإيجار إلى المستأجرين ، بإزاء مقدار من المال ، فمثلاً : يأخذ المالك ألف تومان بعنوان السرقفليّة ، و مائة تومان بعنوان الإجارة السنوية ، و بإزاء السرقفليّة يفوّض أمر الإيجار بعد مضيّ السنة إلى المستأجر ، و قد صار ذلك أمراً عرفيّاً شائعاً في الأسواق .

ثمّ إنّ السرقفليّة على نوعين :

ص:33

أحدهما : ما يأخذه المالك من المستأجر .

ثانيهما : ما يأخذه المستأجر الأوّل من غيره .

فينبغي لنا أن نبحث في النوعين :

حكم النوع الأوّل من السرقفليّة :

الموضع الثاني : في البحث حول النوع الأوّل من السرقفليّة ، و بيان ما هو حكم الشريعة في المبلغ المأخوذ من المستأجر .

و قد يقال كما عن بعض الأساطين : بأنّ حقّ الإيجار - الذي صار حقّاً للمستأجر ممّا له ماليّة في اعتبار العقلاء ، و هو قائم بالعين ، و يقابل بالعوض ، كنفس العين المستأجرة من حيث منافعها ، فتكون المعاملة من سنخ البيع ، و تشملها العمومات من غير قصور ، و ليس هناك ما يصلح للمانعيّة ، سوى توهّم أنّه أكل للمال بالباطل ، و قد عرفت بالتقريب المذكور وهنه ، فالحكم بالصحّة واقع في محلّه بلا ريب (1).

حقيقة الحقّ و أقسامه :

و قبل بيان ما يرد على هذا الوجه ، لا بدّ لنا من تقديم مقدّمة ، و هي : أنّه في الأدلّة عناوين ثلاثة : الملكيّة ، و الحكم ، و الحقّ .

أمّا الملكيّة و الحكم : فحقيقتهما واضحة مذكورة في محلّهما (2).

ص:34


1- 1) لعلّ ذلك يستظهر من كلمات المحقّق الخوئي (قدس سره) في كتاب الإجارة من « المستند في شرح العروة الوثقى » : 512 .
2- 2) سيأتي منه ( دام ظلّه ) بيان حقيقة الملكية في الصفحة 296 .

و أمّا الحقّ : فهو في اللغة بمعنى الثبوت ، و بهذا الاعتبار يطلق عليه سبحانه و تعالى : الحقّ .

و أمّا بحسب الاصطلاح فهو عبارة عن : اعتبار السلطنة على شيء أو شخص في جهة خاصّة ، فمثلاً : حقّ الخيار عبارة عن السلطنة على الفسخ و الامضاء ، و حقّ الشفعة عبارة عن السلطنة على ضمّ حصّة الشريك إلى حصّته بتملّكه عليه قهراً .

و لا يخفى أنّ هذا ليس حقيقة شرعيّة له ؛ إذ مضافاً إلى عدم الدليل عليه : أنّ الحقّ يستعمل كثيراً في الأخبار و كلمات علمائنا الأبرار في الحكم ، و عليه فتشخيص كون مورد خاصّ من قبيل الحكم أو الحقّ بالمعنى الذي ذكرناه ، يتوقّف على ملاحظة الخصوصيّات و القرائن ، و لا يستفاد ذلك من مجرّد إطلاق الحقّ عليه .

و أمّا أقسامه فقد جعل الشيخ الأعظم (قدس سره) له أقساماً :

الأوّل : ما لا يقبل المعاوضة بالمال ، أي: لا يقبل النقل ، و لا الإسقاط ، كحقّ الحضانة و الولاية .

الثاني : ما يقبل الإسقاط ، و لا يقبل النقل ، كحقّ الشفعة و الخيار .

الثالث : ما يكون قابلاً للنقل و الانتقال و الإسقاط ، كحقّ التحجير (1).

و العلّامة (قدس سره) جعل ما يصحّ نقله و إسقاطه إلى قسمين :

أحدهما : ما يصحّ ذلك فيه بالعوض و مجّاناً .

و ثانيهما : ما لا يصحّ ذلك فيه إلّا مجّاناً ، كحقّ القسم ، فإنّ لكلّ من الأزواج نقله إلى ضرّتها ، و إسقاطه ، إلّا أنّه ليس لها أخذ المال بإزاء ذلك (2).

ص:35


1- 1) المكاسب : 8/3 . [1]
2- 2) قواعد الأحكام : 47/2 .

و لا كلام في عدم صحّة جعل ما هو من قبيل القسم الأوّل - أي: ما لا يقبل الانتقال و الإسقاط عوضاً ، و أخذ المال بإزائه ، و كذلك لا يجوز أخذ المال بإزاء ما يقبل ذينك الأمرين ، إلّا أنّه لا بدّ و أن يكون مجّاناً و بلا عوض .

إنّما الكلام في الأقسام الاُخر ، و الحقّ عندنا خلافاً للمحقّق النائيني (ره) (1)صحّة جعل كلّ منها عوضاً ، غاية الأمر : فيما لا يقبل الانتقال يصحّ جعل إسقاطه عوضاً ، و قد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثالث من كتابنا منهاج الفقاهة ، و الجزء الخامس عشر من كتابنا فقه الصادق (2).

هذا فيما إذا عُلم حال الحقّ ، و لو شكّ في كون شيء حكماً أو حقّاً ، و على فرض كونه حقّاً من أي قسم من الأقسام ، لا يصحّ إيقاع المعاملة عليه ؛ لأصالة عدم الانتقال ، و عدم السقوط .

إذا عرفت هذه المقدّمة ، تعرف أنّ أخذ المال بإزاء إعطاء المالك حقّ الايجار للمستأجر ، لا يصحّ ؛ إذ لا يظهر من دليله كونه من الحقوق القابلة للانتقال ، و بناء العرف عليه في هذا الزمان لا يجدي ، فالحقّ عدم تماميّة هذا الوجه .

و قد يقال لتصحيح هذه المعاملة : بأنّ المالك إذا آجر ماله ، له أن يشترط على المستأجر و على نفسه ما يشاء ، فيقال في المقام : إنّه يؤجّر ماله ، و يشترط في ضمنه شرطين :

أحدهما : أن يقرضه المستأجر مبلغاً معيّناً .

و ثانيهما : أنّه يشترط على نفسه ؛ بأن لا يمنعه عن إيجار المحل لمن شاء عند انتهاء

ص:36


1- 1) منية الطالب : 108/1 .
2- 2) فقه الصادق : 206/15 . [1]منهاج الفقاهة : 19/3 . [2]

مدّة الإجارة أو قبلها .

و هذا الوجه أيضاً غير تامّ ، فإنّه و إن كان لا يرد عليه أنّ الشرط الثاني شرط يجرّ نفعاً للمقرض ، و هو ملحق بالربا ؛ إذ الشرط الثاني شرط في ضمن عقد الإجارة ، لا في عقد القرض .

و لكن يرد عليه : أنّ المعاملات الخارجيّة ليست كذلك .

و أضف إلى ذلك : أنّ عدم المنع من الإيجار لا يكفي ، بل لا بدّ و أن يكون مسلّطاً على الإيجار .

فإن قيل : إنّه يعطيه هذه السلطنة .

قيل : إنّه يرجع إلى الوجه السابق ، و قد عرفت ما فيه .

و أوهن من هذا الوجه ، ما أفاده بعضهم : من أنّ هذين الشرطين ، و إن لم يصرّح بهما في ضمن العقد ، إلّا أنّهما من الشروط الضمنيّة المبنية عليها العقود ، فكما أنّ كون الثمن نقداً ، و تسليم المشتري إيّاه من الشروط الضمنيّة ، و يقتضيه إطلاق العقد ، و يكون الانصراف إليه كقرينة نوعيّة على أخذه في متن العقد ، و هذا يغني عن إدخاله في صريح الإنشاء العقدي ، كذلك فيما نحن فيه ؛ لأنّ بناء العرف في هذا الزمان على أنّ المالك لا يخرج المستأجر إلّا برضاه ، و لا يتخلّف المالك عن عقد الإيجار معه بعد انتهاء مدّة الإجارة .

فإنّه يرد عليه - مضافاً إلى ما تقدّم : أنّ عدم إخراجه فعلاً ، لا يكون موجباً لأن يكون ذلك من الشروط الضمنيّة ، التي يجب الوفاء بها من قِبل المالك ، و موجباً للانصراف إليه ، فتأمّل .

و بما ذكرنا ظهر عدم تماميّة ما قيل لتصحيح هذه المعاملة :

ص:37

بالالتزام بالصلح : بأن يتصالح الطرفان على أن يدفع المستأجر مبلغاً من المال ، بإزاء عدم مزاحمة المالك للمستأجر ، في إيجار المحل لمن شاء ، عند انتهاء المدّة أو قبلها .

أو بالالتزام بالجعالة : بأن يدفع المستأجر مبلغاً ، كجعالة إلى المالك ، على أن لا يزاحمه في الإيجار .

فإنّه قد مرّ أنّ عدم المزاحمة لا يكفي ، و إعطاء السلطنة على الإيجار لا يصحّ مع عدم العلم بأنّها قابلة للانتقال أم لا، و لم يدلّ دليل عليه ، و مقتضى الأصل عدمه ، فلا يصحّ الصلح ، و لا الجعالة .

و الحقّ في المقام أنّه يمكن تصحيح هذه المعاملة بطريقين :

الطريق الأوّل : أن يؤجّر المالك ماله بمبلغ سنوياً ، مع إضافة مأخوذة بعنوان السرقفليّة ، بحيث تكون الإضافة جزءاً للعوض ، و يشترط للمستأجر أن لا يزاحمه في الجلوس في المحلّ ، و لا يزيد في كرائه السنوي ، و يجدّد الإجارة بعد انتهاء مدّتها على نحو المبلغ السنوي ، و أنّه لو خلّى المستأجر المحلّ ، و أعطاه لشخص آخر ، فإنّ المعاملة مع الثالث تكون على ذاك المنهج ، فمثلاً : يؤجّر الفندق بألف و مائتين تومان سنوياً ، في كلّ شهر مائة تومان ، مع إضافة خمسة آلاف تومان ، و يشترط للمستأجر أن يكون له كامل الحرية في الفندق بعد انتهاء المدّة في الجلوس فيه ، مع الإجارة في كلّ شهر مائة تومان ، و أن يتحوّل عنه و يسكنه غيره بتلك الإجارة ، فخمسة آلاف تومان تحلّ للمالك ؛ لأنّها مأخوذة جزءاً للعوض في الإجارة ، و بعد انتهاء المدّة يجب على المالك أن لا يزيد في كراء الفندق ، و يؤجّره للمستأجر القديم أو الجديد الذي انتخبه القديم بمقتضى الشرط ، و لو امتنع المالك يجبر عليه ؛ لأنّ ذلك

ص:38

مقتضى الشرط ، الواجب الوفاء بمقتضى النصوص و الفتاوى .

الطريق الثاني : أن يتوافق المالك مع المستأجر ، بأن يؤجّر الفندق سنوياً بمبلغ كألف تومان ، و يشترط في ضمن الإجارة أن يكون المستأجر وكيلاً في إيجار الفندق بعد انتهاء المدّة لنفسه أو لغيره بذلك المبلغ ، و وكيلاً في توكيل الثالث ، و إعطائه الوكالة ، و يجعل بإزاء هذه الوكالة مبلغاً كخمسة آلاف تومان ، فالشرط هو الوكالة بإزاء هذا المبلغ .

و هذه الوكالة بما أنّها مشروطة في ضمن العقد اللازم ، و هي الإجارة ، فإنّها تكون لازمة ، و ليس للموكّل عزله : و حيث إنّ لهذه الوكالة ماليّة فتنتقل إلى ورثة الوكيل بعد موته .

فإن قيل : إنّ الوكالة لا تورث كما يظهر من الأصحاب ، حيث ذكروا في باب الرهن أنّه لو شرط وكالة المرتهن في بيع العين المرهونة لوفاء دينه صحّ ، و لو مات المرتهن لم ينتقل إلى وارثه (1).

أجبنا عنه :

أوّلاً : بالفرق بين المقام و ما ذكروه ، بثبوت الماليّة للوكالة في المقام .

و ثانياً : إنّ الأصحاب في تلك المسألة صرّحوا بالانتقال مع الشرط ، فيشترط في المقام الانتقال .

و بما أنّ الأظهر عندنا عدم بطلان الوكالة بموت الموكّل ، سيّما في الوكالة اللازمة كما حقّقناه في محلّه (2)، فهذه الوكالة تكون باقية بعد موت الموكّل ، و على هذا فيحلّ

ص:39


1- 1) جواهر الكلام : 167/25 . [1]
2- 2) فقه الصادق : 248/20 . [2]

للمالك ما يأخذه بإزاء الوكالة ، و المستأجر بمقتضى الوكالة مختار ، و له كامل الحرية في أن يؤجّر الفندق بعد انتهاء المدّة لنفسه أو لغيره .

حكم النوع الثاني من السرقفليّة :

الموضع الثالث : في البحث حول النوع الثاني من السرقفليّة ، و هو ما يأخذه المستأجر من المستأجر الآخر ، و له صور :

الصورة الاُولى : أن لا يكون المستأجر القديم وكيلاً من جانب المالك ، و لا شرط له أن يكون له كامل الحرية ، بل استأجر فندقاً بمبلغ إلى مدّة معيّنة ، و انتهت المدّة ، و الواجب عليه في هذه الصورة تخلية الفندق أو الاستئجار من مالكه ، و لا شيء له كي يعطيه للمستأجر الجديد بإزاء مبلغ معيّن ، فأخذ السرقفلي له حرام لا سبيل إلى تصحيح أخذه بوجه .

نعم ، لو كان المالك طالباً لإيجاره إيّاه ، بحيث لو استدعى تجديد الإجارة يقدّمه على غيره ، فهناك طرق لحلّية ما يأخذه من المستأجر الجديد :

الطريق الأوّل : أن يعطيه المبلغ و يشترط عليه أن لا يزاحمه في استئجاره .

الطريق الثاني : أن يهبه مبلغاً بعوض عدم المزاحمة ، فيكون من قبيل الهبة المعوّضة .

الطريق الثالث : تنزيله على الجعالة ، بأن يدفع المستأجر الجديد مبلغاً إلى المستأجر القديم على أن لا يزاحمه ، بناءً على أنّه يكفي في الجعالة أن لا يعمل شيئاً ، إذا كان عدم العمل أمراً له ماليّة عند العقلاء .

و قد يستدلّ لجواز الأخذ في المورد الذي جوّزناه بصحيح محمّد بن مسلم ، عن الإمام الصادق (ع) : عن رجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله

ص:40

فيسكنه ؟ قال (ع) : « لا بأس » (1).

و لكنّ الظاهر عدم ارتباطه بالمقام ، فإنّ المراد بالمنزل فيه هو المنزل المشترك ، كالمدرسة و المسجد و غيرهما ، كما لا يخفى على من تدبّر في الخبر ، فالصحيح ما ذكرناه .

هذا كلّه من ناحية المستأجرين .

أمّا المالك فله كامل الحرية في الإيجار لأي شخص أراد ، و لا يكون ملزماً بإيجاره للمستأجر الجديد .

الصورة الثانية : أن يكون المستأجر القديم وكيلاً من ناحية المالك في الإيجار لنفسه متى شاء ، أو شرط له المالك ذلك ، و لكنّه ليس وكيلاً عنه في الإيجار للغير و لا شرط له ذلك ، و في هذه الصورة للمستأجر القديم أن يأخذ مبلغاً يساوي ما دفعه إلى المالك أو أقلّ منه أو أكثر من المالك ، و يرفع اليد عن حقّه ، كما أنّ له أن يأخذ مبلغاً من المستأجر الجديد بعنوان الهبة ، أو الجعالة ليتحول عن المنزل و لا يزاحمه في الاستئجار .

و لكن بعد ذلك للمالك كمال الحرية في إيجاره إيّاه و عدمه .

الصورة الثالثة : أن يكون أمر الإيجار لنفسه أو لغيره بيد المستأجر القديم ، بعنوان الوكالة أو الشرط بالتقريب المتقدّم ، و في هذه الصورة للمستأجر القديم أن يأخذ السرقفلي من المالك ، و يفوّض أمر المحلّ إليه بإزائه ، و له أن يأخذه من المستأجر الجديد و يفوّض الأمر إليه ، و إن فوّض الأمر إليه ليس للمالك مزاحمته ، بل لا بدّ له من الرضوخ و القبول .

ص:41


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 2 .

ص:42

المسألة الثالثة الأوراق النقديّة

اشارة

و تقرأ فيها :

بحث حول حقيقة ماليّة الأشياء

فلسفة غطاء العملة الماليّة

بحث حول الربا و أقسامه

تحقّق الربا في الأوراق النقديّة و عدمه

تعلّق الزكاة بالأوراق النقديّة و عدمه

حكم الأوراق النقديّة إذا سقطت عن الماليّة

ص:43

ص:44

من الموضوعات المستحدثة : الأوراق النقدية ، كالدولار و الليرة و الدينار العراقي ، و الكلام فيها في مواضع :

1 - الأوّل : تحقّق الربا في الأوراق النقديّة و عدمها .

2 - الثاني : تعلّق الزكاة بالأوراق النقديّة و عدمه .

3 - الثالث : حكم الأوراق النقديّة إذا سقطت عن المالية .

و قبل الخوض في البحث في هذه المواضع ، لا بدّ من تقديم مقدّمتين :

المقدّمة الاُولى : بيان حقيقة ماليّة الأشياء .

المقدّمة الثانية : الإشارة إلى حكم الربا .

المقدّمة الاُولى - ماليّة المال :

أمّا المقدّمة الاُولى : فلا إشكال في أنّ الإنسان مدني بالطبع ، لا يتمكّن من رفع حوائجه وحده ، بل كلّ امّة و قبيلة من النّاس تحتاج في إدامة حياتها المعيشيّة إلى سائر الاُمم و القبائل ، فمثلاً : قد تكون امّة غنية من حيث المعادن ، و لكنّها في أمسّ الحاجة إلى الأقمشة ، و امّة اخرى بعكس ذلك ، و عليه فيتوقّف حفظ نظام النوع على التبادل بين الاُمم ، و لو لم يشرّع ذلك لاحتاج كلّ فرد إلى التكالب و التغالب مع غيره ، ممّا يعني بأنّ تشريع المعاملات و المبادلات من الضروريّات الأوّلية .

ص:45

و قد كانوا في أوائل الأمر يتعاملون بالأشياء و الأجناس المختلفة بعضها ببعض ، و كانوا يعرفون قيمة كلّ جنس بالإضافة إلى الأجناس الاُخر ، إلى أن كَثُر أبناء آدم و انتشروا في البلاد ، و اتّسعت المعاملات ، فلم يروا مناصاً من ضرب السكّة ، و وضع النقود ، و اعتبار مقدار من الماليّة لها ، و بعد ذلك بنى العقلاء على تخصيص الثمن بالنقود .

و على هذا فماليّة الأشياء تكون على نحوين :

الأوّل : ما كانت ماليّته ذاتيّة ، و هو كلّ ما فيه منفعة عائدة إلى الإنسان ، و يحتاج إليه بحسب فطرته من المأكول و المشروب و الملبوس ، و ما شاكلها .

الثاني : ما كانت ماليّته اعتباريّة و جعليّة ، كالنقود .

و النحو الثاني على قسمين :

أحدهما : ما كان الاعتبار فيه عامّاً يشترك فيه جميع أفراد البشر ، بدافع الشعور بالحاجة الاجتماعيّة المشار إليها آنفاً ، كالأحجار الكريمة ، و المعادن النفيسة من الذهب و الفضّة و ما شاكلهما .

ثانيهما : ما كان الاعتبار فيه خاصّاً ، و هو أيضاً على قسمين :

إذ قد تعتبر الماليّة لشيء خاصّ ، من جانب دولةٍ ما بالنظر إلى ما بنت عليه تلك الدولة من ترتيب أثر خاصّ عليه ، كطوابع البريد ، فإنّ كلّ طابع له مالية في مملكة خاصّة دون الممالك الاُخر ، و ماليّته إنّما تكون بلحاظ ما بنت عليه تلك الدولة و الحكومة من ترتيب أثر خاصّ عليه ، و هو إيصال الرسالة إلى أي محلّ شاء المرسل ، مقابل إلصاق الطابع المعيّن بها .

و قد يكون الاعتبار فيه ليقوم مقام القسم الأوّل ، كالدينار و الدولار ،

ص:46

و مورد بحثنا فعلاً هو هذا القسم من الأموال .

و لا ريب في أنّ هذا النوع من الأموال الاعتباريّة ، لا يعتبره العقلاء مالاً بمجرّد اعتبار المعتبر أيّاً كان ، بل لا بدّ و أن يكون له غطاء ، و يعبّر عنه ب غطاء العملة ) .

فلسفة غطاء العملة الماليّة :

و هذه التغطية على وجوه :

الأوّل : أن تودع الدولة في الخزانة نقوداً مسكوكة من الذهب و الفضّة ، بالقدر الذي طبع من الأوراق ، و تعلن أنّ لكلّ شخص أن يراجع البنك ، و يأخذ من النقود ما يقابل ورقته .

الثاني : أن تودع قوالب ذهبيّة أو فضّية غير مسكوكة ، و تتعهّد الدولة بتسليم ما يقابل الأوراق ، من الذهب أو الفضّة ، من تلك القوالب .

الثالث : أن تودع الحكومة مقداراً من النقدين في أحد البنوك العالميّة ، أو في البنك الحكومي المؤسّس من قِبل نفس الحكومة ، و لا تكون الحكومة مستعدّة لدفع ما يقابل الورق النقدي من الادّخار الموجود في البنك العالمي ، أو لديها فعلاً .

الرابع : أن يكون الرصيد للورق النقدي من المعادن و الثروات الطبيعيّة ، كالنفط .

الخامس : أن تتعهّد الدولة بأن تكون مديونةً بمقدار الأوراق النقديّة .

و في جميع هذه الموارد تكون الماليّة الاعتباريّة لنفس الورق النقدي ، و لا تقع المعاملة على الغطاء النقدي المقابل له .

ص:47

المقدّمة الثانية - حكم الربا :

الربا على قسمين :

القسم الأوّل : الربا في البيع و المعاملة ، و يعتبر فيه أمران :

الأمر الأوّل : كون مورد المعاملة من المكيل أو الموزون ، أي: يكون بيعه بالكيل مع الزيادة ، كما هو المشهور بين الأصحاب ، و تشهد به كثير من النصوص :

كصحيح زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) : « لا يكون الربا إلّا فيما يكال أو يوزن » (1).

و موثّق منصور عن الإمام الصادق (ع) : سألته عن البيضة بالبيضتين ؟ قال (ع) : « لا بأس » ، و الثوب بالثوبين ؟ قال (ع) : « لا بأس به » ، و الفرس بالفرسين ؟ قال (ع) : « لا بأس به » ، ثمّ قال : « كلّ شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد ، فإذا كان لا يكال و لا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد » (2). و نحوهما غيرهما .

فما عن المفيد (3)، و ابن الجنيد (4)، و سلّار (5)من ثبوت الربا في المعدود و نحوه ، و أنّه لا يجوز التفاضل في بيع الجنس بالجنس مطلقاً ، ضعيف .

و الاستشهاد له بصحيح محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) : عن الثوبين الرديّين بالثوب المرتفع ، و البعير بالبعيرين ، و الدابّة بالدابّتين ؟ فقال (ع) : « كره ذلك

ص:48


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 6 من أبواب الربا ، الحديث 1 .
2- 2) الوسائل : الباب 16 من أبواب الربا ، الحديث 3 . [2]
3- 3) المقنعة : 603 . [3]
4- 4) فتاوى ابن الجنيد : 172 . [4]
5- 5) المراسم : 179 .

عليّ (ع) ، فنحن نكرهه ، إلّا أن يختلف الصنفان » (1). و نحوه غيره .

غير تامّ ؛ لعدم عمل الأصحاب بها ، و قابليّتها للحمل على الكراهة المصطلحة .

و عن جماعة : كالقديمين (2)، و الشيخين (3)، و ابني حمزة (4)و زهرة (5): المنع من بيع غير المكيل و الموزون بمثله متفاضلاً إذا كان البيع نسيئة .

و استدلّ لهم بالتقييد بكونه يداً بيد في بعض النصوص ، كخبر محمّد بن مسلم ، عن الإمام الباقر (ع) في حديث : « إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل يداً بيد » (6). و نحوه غيره .

و بالأمر بالخطط على النسيئة في خبر سعيد بن يسار (7).

و بالتصريح بذلك في خبر أَبان ، عن محمّد ، عن الإمام الصادق (ع) : « ما كان من طعام مختلف ، أو متاع ، أو شيء من الأشياء يتفاضل ، فلا بأس ببيعه مثلين بمثل ،

ص:49


1- 1) الوسائل : الباب 16 من أبواب الربا ، الحديث 7 . [1]
2- 2) المقصود من القديمين : ابن أبي عقيل ، و ابن الجنيد ، فلاحظ رأييهما في : فقه ابن أبي عقيل : 418 ، و فتاوى ابن الجنيد : 172 . [2]
3- 3) المقصود من الشيخين : المفيد و الطوسي 0 ، فلاحظ رأييهما في : المقنعة : 503 ، و المبسوط : 89 .
4- 4) الوسيلة : 254 .
5- 5) لعلّ رأي ابن زهرة يستظهر من كلامه حول بيع الحيوان بالحيوان - غنية النزوع : 225/1 . [3]
6- 6) الوسائل : الباب 13 من أبواب الربا ، الحديث 1 . [4]
7- 7) الوسائل : الباب 17 من أبواب الربا ، الحديث 7 . [5] عن سعيد بن يسار ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) : عن البعير بالبعيرين ، يداً بيد و نسية ؟ فقال : « نعم، لا بأس إذا سمّيت الأسنان جذعين أو ثنيّين » ، ثمّ أمرني فخططت على النسية .

يداً بيد ، فأمّا نظرة فلا يصلح » (1).

و لكن يرد عليه : أنّ هذه الوجوه لا تصلح للمقاومة مع ما تقدّم ، فتحمل هذه النصوص على الكراهة أو التقيّة ؛ إذ التفصيل مذهب العامّة ، و يشعر به أمره بالخطط على النسيئة .

الأمر الثاني : اتّحاد الجنس ، أي: جنس العوضين ، أو كون أحدهما أصلاً للآخر ، أو كونهما فرعين من جنس واحد ، و يشهد له كثير من النصوص :

كصحيح محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (ع) في حديث : « إذا اختلف الشيئان فلا بأس به مثلين بمثل ، يداً بيد » (2). و نحوه غيره ، فلو كان المبيع و الثمن مختلفين جنساً لا مانع من التفاضل .

و قد يقال كما عن جمع من القدماء : إنّه يتمّ ذلك إذا كانت المعاملة نقديّة أو نسيئة مع كون العوضين من غير المكيل و الموزون ، و أمّا إذا كانت نسيئة مع كونهما من المكيل و الموزون ، كبيع الحنطة بالزبيب ، أو التمر - مثلاً فلا يجوز التفاضل (3).

و استدلّ له بجملة من النصوص المشتملة على قوله (ع) : « لا يصلح » ، أو « يكره » ، أو « و لا بأس مثلين بمثل ، يداً بيد » (4)؛ إذ مفهومه ثبوت البأس إذا لم يكن يداً بيد .

و لكن يرد عليه : أنّه لا بدّ من حمل هذه النصوص على الكراهة بقرينة النصوص

ص:50


1- 1) الوسائل : الباب 17 من أبواب الربا ، الحديث 9 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 13 من أبواب الربا ، الحديث 1 . [2]
3- 3) لاحظ : مختلف الشيعة : 86/5 .
4- 4) الوسائل : الباب 13 و 17 من أبواب الربا . [3]

الاُخر ، و ظهور « لا يصلح » و« يكره » فيها ، و تمام الكلام في مسائل الربا موكول إلى محلّه ، و إنّما الغرض هنا الإشارة إلى حكم الربا بنحو الإجمال (1).

تحقّق الربا في الأوراق النقديّة و عدمه :

أمّا الموضع الأوّل من البحث : فحيث عرفت أنّ الأوراق النقديّة لها ماليّة اعتبارية صرفة ، و أنّ كلّ ورقة لها شعار خاصّ ، و لون مخصوص يعتبر بكذا مقدار من المال ، و تكون هي طرف المعاملة لا الذهب أو الفضّة المودوعة ، و لهذا لا يعتبر في بيعها التقابض في المجلس ، فالأظهر عدم تحقّق ربا المعاملة فيها .

و توضيحه : أنّه إن كانت المعاملة عليها نقديّة ، كما لو باع عشرة توامين بعشرين نقداً ، لا تكون المعاملة ربويّة ؛ لما عرفت من أنّ شرط جريان الربا في المعاملة كون موردها من المكيل أو الموزون ، و الورق النقدي ليس منهما ، فلا مانع من التفاضل فيه .

و إن كانت المعاملة عليها نسيئة : فتارة تكون المعاملة بعنوان البيع ، و حقيقته : إعطاء شيء بعوض .

و اخرى : تكون بعنوان القرض ، و حقيقته : تمليك العين ، أي: خصوصيّاتها مجّاناً ، و جعل ماليّتها في الذمّة ، فهو في الحقيقة ينحلّ إلى إنشاءين : تمليك مجّاني بالذمّة إلى العين ، و تضمين لماليّة العين ، و استئمان لها في ذمّة المقترض إلى أجل معيّن .

فإن كانت بعنوان القرض لا يجوز التفاضل فيها ، فلو أقرضه عشرة توامين

ص:51


1- 1) لاحظ ما نقّحه سماحة الاُستاذ دام ظلّه في موسوعته الكبرى ( فقه الصادق ) : 104/18 . [1]

ليدفع له بعد شهرين أحد عشر توماناً كانت المعاملة ربويّة و فاسدة ؛ لما تقدّم من أنّ كلّ قرض يجرّ نفعاً فهو ربا .

و إن كانت بعنوان البيع ، جاز التفاضل فيها ، فيجوز بيع عشرة توامين نقداً بأحد عشر توماناً في الذمّة إلى شهرين ، و الوجه في ذلك ما تقدّم من أنّه يعتبر في جريان الربا في البيع كون المورد من المكيل أو الموزون ، و الورق النقدي ليس كذلك . فلا بدّ في مقام المعاملة من التوجّه و الالتفات إلى ذلك ، أي: الفرق بين البيع و القرض ، و أنّه في القرض إلى أجل يتحقّق الربا ، و لا يتحقّق في البيع إلى أجل .

و هاهنا شبهتان :

الشبهة الاُولى : أنّه يعتبر في تحقّق البيع تعدّد المبيع و الثمن و اختلافهما ، فلو اتّحدا بطل البيع ، أي: لا تكون المعاملة بيعاً ، و الكلّي في الذمّة بما أنّه قابل للانطباق على الورق النقدي الموجود ، فلا يصحّ البيع بجعل الموجود مبيعاً و الكلّي ثمناً ، بل هو قرض بصورة البيع ، فتكون المعاملة ربويّة و باطلة .

و هذا متين جدّاً ، و لكن يمكن التخلّص عنه بجعل الكلّي في الذمّة مقيّداً بقيد لا ينطبق على الموجود .

لا يقال : إنّه حيث يكون الورق متمحّضاً في الماليّة ، و ما يقارنه من الخصوصيّات غير دخيل في ماليّته ، فلا يصحّ جعل الخصوصيّات جزء المبيع أو الثمن ، فالمبيع هو المقدار الخاصّ من المالية ، و الثمن هو ذلك مع الزيادة ، فيلزم اتّحاد المبيع و الثمن .

فإنّه يتوجّه عليه - بعد النقض ببيع الدرهم بالدرهم ، و الدينار بالدينار ، بل كلّ منهما بالآخر ، الذي لا ريب في جوازه نصّاً و فتوى ، مع أنّ هذا الوجه يقتضي

ص:52

بطلانه ، فإنّ المبيع مقدار من الماليّة ، و الثمن هو ذلك : أنّ المبيع و الثمن هما المال لا الماليّة ، و هو متعدّد .

الشبهة الثانية : إنّ مناط تحريم الربا ، و هو : تجمّع الثروة عند شخص ، و هجوم الفقر على آخر ، المستلزم لفساد النظام ، موجود فيما نحن فيه ، فكما أنّ هذا المناط موجود في النقدين كذلك في الأوراق النقديّة ، و كما أنّ القرض الذي يجرّ نفعاً يترتّب عليه ذلك ، كذلك البيع المذكور ، و تغيير عنوان المعاملة لا يوجب انقلاب الواقع .

و يتوجّه عليها : أنّه لو فتح هذا الباب للزم تأسيس فقه جديد ، كيف ؟ و هنا مناط التحليل و التحريم هو عناوين المعاملات ، و ما ذكر من تنقيح المناط ليس إلّا قياساً نُهينا عن استعماله في الفقه ، و منشأ فساد النظام و اختلاف الطبقات الاجتماعيّة ليس إلّا الإعراض عمّا شرّعه الشارع الأقدس من القوانين الاجتماعيّة ، لا العمل بما قرّره .

و بما ذكرناه ظهر حكم بيع الدين المؤجّل بأقلّ منه نقداً ، و أنّه لا إشكال في جوازه .

تعلّق الزكاة بالأوراق النقديّة :

و أمّا الموضع الثاني : فالأظهر عدم تعلّق الزكاة بها ، فلو كانت التغطية بغير الوجه الأوّل المتقدّم فواضح ، فإن شرط تعلّق الزكاة كون المورد من الذهب أو الفضّة المسكوكين ، و كونه تحت تصرّف المالك ، و شيء منهما لا يكون متحقّقاً في المقام ، كما لا يخفى .

و أمّا إذا كانت التغطية على الوجه الأوّل ، فقد يتوهّم تعلّقها بها من جهة أنّ

ص:53

من بيده الورق مالك لمقدار من الذهب أو الفضّة المسكوكين المودوعين في الخزانة ، فإذا بلغ النصاب تعلّقت به الزكاة .

و لكنّه فاسد لوجهين :

الأوّل : ما تقدّم من أنّه في تلك الصورة أيضاً تكون الأوراق مالاً عرفاً ، و يعتبر العقلاء لها المالية ، و تبديلها بالنقد و إن قرّرته الحكومة ، إلّا أنّه لا يصير سبباً لكون المملوك هو النقد دون الورق ، بل الورق مملوك ، و هو الطرف للمعاملة ، غاية الأمر له تبديله به .

الثاني : إنّه يعتبر في تعلّق الزكاة كون النقد تحت التصرّف طول الحول ، و هذا لا يكون متحقّقاً في المقام ؛ إذ لا يمكن التصرّف في النقود الموجودة في الخزانة ، و هو واضح ، فالأظهر عدم تعلّق الزكاة بالأوراق النقديّة .

حكم الأوراق النقديّة إذا سقطت عن الماليّة :

أمّا الموضع الثالث : فلو اقترض شخص أوراقاً نقديّة أو غصبها ، ثمّ أسقطتها الحكومة عن المالية ، فهل على المقترض أو الغاصب إذا جاء ليردّها ردّ الماليّة التالفة أيضاً ، أم يكفي ردّ الأوراق ؟ أم يفصل بين بقاء العين و تلفها ، فيكفي ردّها في الأوّل دون الثاني ؟ وجوه .

و للمسألة نظير تعرّض الفقهاء له ، و هو ما لو أخذ شخص من آخر ما له ماليّة في وقت الأخذ ، كالماء في مفازة (1)الحجاز و الثلج في الصيف ، ثمّ جاء ليردّه و لا مالية له .

ص:54


1- 1) المفازة : الفلاة التي لا ماء فيها .

و قد اختلفت كلماتهم فيه ، و الأكثر على التفصيل بين بقاء العين و تلفها ، فبنوا على كفاية ردّ العين في صورة بقائها ، و عدم كفاية ردّ المثل في صورة تلفها ، بل لا بدّ من ردّ ماليّتها أيضاً .

و ذهب بعضهم (1)إلى لزوم ردّ الماليّة مطلقاً .

و اختار جمع منهم صاحب الجواهر (ره) (2)، و احتمله في القواعد (3)عدم لزوم تدارك الماليّة مطلقاً .

و الأظهر عندنا : عدم لزوم تدارك الماليّة في الموردين في كلتا المسألتين ؛ و ذلك لأنّ الماليّة الاعتباريّة المنتزعة من اعتبار من بيده الاعتبار لا تكون مضمونة ، و إن شئت قلت : إنّ العين بما لها من الخصوصيّة تكون في العهدة إلى حين الأداء ، و هي في الفرض حين الأداء لا قيمة لها ، فلا وجه لتدارك القيمة - قيمة يوم الأخذ أو يوم التلف و الفائت إنّما هو اعتبار المعتبر لا شيء من المأخوذ .

نعم . . لو كان الورق النقدي معبّراً عن النقدين ، و كانت المعاملات واقعة على ما يعبّر عنه الورق من النقدين ، كان الصحيح في المقام اشتغال الذمّة بالماليّة ، فإنّ الاقتراض في الحقيقة يقع على النقدين دون الورق ، و لكن عرفت فساد المبنى .

و يشهد لما اخترناه من عدم اشتغال الذمّة بالمالية صحيح معاوية بن سعيد ، عن رجل استقرض دراهم من رجل ، و سقطت تلك الدراهم أو تغيّرت ، و لا يباع بها شيء ، أ لصاحب الدراهم : الدراهم الاُولى ؟ أو الجائزة التي تجوز بين النّاس ؟

ص:55


1- 1) نسبه في الجواهر : 66/25 إلى الشيخ الصدوق (قدس سره) في المقنع .
2- 2) الجواهر : 66/25 .
3- 3) قواعد الأحكام : 107/2 .

فقال (ع) : « لصاحب الدراهم الدراهم الاُولى » (1)، و نحوه مكاتبة يونس (2).

و تعارضهما مكاتبة اخرى ليونس عن الإمام الرضا (ع) في المورد المفروض : « لك أن تأخذ منه ما ينفق بين النّاس كما أعطيته ما ينفق بين النّاس » (3).

و لكن الترجيح للأوّلين .

و قد استدلّ لضمان الماليّة في المسألة المماثلة للمقام ، سيّما في صورة التلف بوجوه :

الوجه الأوّل : إنّ الزمان و المكان من خصوصيّات العين الدخيلة في ماليّتها ؛ إذ الماء في مفازة الحجاز غير الماء على الشاطئ ، و الثلج في الشتاء غير الثلج في الصيف ، فإذا اخذ الماء في المفازة و الثلج في الصيف ، تكون خصوصيّة الزمان و المكان في عهدة الضامن ، و لا يكون ردّهما في الشاطئ و الشتاء أداءً للمأخوذ ، فلا مناص من ردّ القيمة أداءً للخصوصيّات .

و فيه :

أوّلاً : النقض بما إذا نقصت القيمة ، فإنّ لازم هذا الوجه ضمان المقدار التالف

ص:56


1- 1) الوسائل : الباب 20 من أبواب الصرف ، الحديث 4 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 20 من أبواب الصرف ، الحديث 2 . [2] عن يونس ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا (ع) : أنّه كان لي على رجل عشرة دراهم ، و أنّ السلطان أسقط تلك الدراهم ، و جاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الاُولى ، و لها اليوم وضيعة ، فأي شيء لي عليه ؟ الاُولى التي أسقطها السلطان ؟ أو الدراهم التي أجازها السلطان ؟ فكتب : « لك الدراهم الاُولى » .
3- 3) الوسائل : الباب 20 من أبواب الصرف ، الحديث 1 . و الرواية هكذا : كتبت إلى الرضا (ع) : إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم ، و كانت تلك الدراهم تنفق بين النّاس تلك الأيّام ، و ليست تنفق اليوم ، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين النّاس ؟ فكتب إليَّ : « لك أن تأخذ . . . » .

من الماليّة ، مع أنّه لم يلتزم أحد به .

ثانياً : إنّ الزمان و المكان ليسا دخيلين في المالية ، و إنّما هي تنتزع من كثرة الراغب و قلّة الوجود .

و إن شئت قلت : إن سقوط المالية تارة يكون من جهة نقص في العين ، كما إذا صار الثلج ماءً ، و اخرى يكون من جهة عدم احتياج النّاس إليه مع بقائه على ما هو عليه من الخصوصيّات ، ففي الأوّل يحكم بالضمان لعموم أدلّته ، و لا يحكم به في الثاني .

الوجه الثاني : حديث لا ضرر ، بتقريب : أنّ المأخوذ حين أخذه كانت له مالية ، فإذا ردّ مثله أو عينه مع عدم الماليّة له من دون تداركها ، يكون ذلك ضرراً على المالك ، و الحديث ينفيه .

و فيه :

إنّا قد حقّقنا في محلّه (1): أنّ الحديث إنّما ينفي الأحكام الضرريّة ، و لا يثبت به حكم ، فلا يثبت به الضمان في المقام .

الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق الأصفهاني (ره) ، و هو مختصّ بالصورة الثانية ، و حاصله : أنّ دليل وجوب ردّ المثل إنّما يكون دليلاً على التضمين و التغريم ، فلا بدّ من رعاية حيثيّة الماليّة ؛ إذ المال التالف لا يتدارك إلّا بالمال ، ثمّ قال : و منه يتبيّن الفرق بين سقوط العين عن الماليّة و سقوط المثل عنها ؛ إذ ردّ العين بلحاظ ملكيّتها لا بلحاظ ماليّتها ، لكن التضمين و التغريم بلحاظ ماليّتها فيجب حفظ الماليّة في

ص:57


1- 1) زبدة الاُصول : 228/5 . [1]

الثاني دون الأوّل (1).

و يرد عليه أمران :

الأوّل : إنّه لا فرق بين العين و المثل ، و قد ثبت وجوب ردّ كلّ منهما بعموم « على اليد » ، و هو بالنسبة إليهما على حدّ سواء ، فلو قلنا بلزوم غرامة الماليّة في المثل ، فلا مناص عن القول به في العين .

الثاني : إنّ أدلّة الضمان إنّما تدلّ على وجوب ردّ العين مع وجودها ، و المثل بعد تلفها إن كانت مثلية ، و المماثلة المعتبرة - على ما حقّق في محلّه (2)هي : المماثلة من حيث الحقيقة ، و حيث أنّ الماليّة ليست صفة في العين أو المثل ، فلا وجه لضمانها .

و إن شئت قلت : إنّ العين بعد تلفها إنّما تكون في العهدة إلى حين الأداء ، و هي على الفرض لا مالية لها حينه ، فلا وجه لأدائها .

ص:58


1- 1) حاشية المكاسب : 367/1 . [1]
2- 2) فقه الصادق : 400/16 . [2]

المسألة الرابعة الأوراق التجاريّة ( الكمبيالات )

اشارة

و تقرأ فيها :

حقيقة ( الكمبيالة ) و أقسامها

جواز تحويل ( كمبيالة الدين الحقيقي ) على طرف ثالث بأقلّ من الدين

جواز تحويل ( كمبيالة الدين الصوري ) على طرف ثالث بأقلّ من قيمتها الماليّة

وجوه تصوير جواز بيع ( كمبيالة المجاملة )

وجه جواز رجوع الطرف الثالث على الدائن

حكم ما يأخذه الطرف الثالث في مقابل تأخير الدفع

ص:59

ص:60

من المعاملات المستحدثة : المعاملة الواقعة على الأوراق التجاريّة المسمّاة بالكمبيالة (1)، فلا بدّ لنا من بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منها .

و تنقيح القول فيها بالبحث في جهات :

الجهة الاُولى : أقسام الكمبيالة

إنّ الكمبيالة على قسمين :

الأوّل : كمبيالة الدين الحقيقي ، و هي : التي تعبّر عن وجود قرض حقيقي ، كما إذا كان شخص مديوناً لآخر مائة تومان ، و موعد استحقاق هذا القرض بعد شهرين ، و في هذه الحالة يأخذ الدائن من المدين الورقة المذكورة ( الكمبيالة ) في قبال الدين المتعلّق بذمّته .

الثاني : كمبيالة المجاملة ، و هي : التي تعبّر عن وجود قرض صوري ، أي: لا يكون لأحد الطرفين دين على الآخر ، و لكن يعطيه الورقة المذكورة المفيدة أنّه مديون لها مائة تومان مثلاً .

جواز تحويل كمبيالة الدين الحقيقي بأقلّ منه على غير الدائن :

الجهة الثانية : في أنّه هل يجوز تحويل كمبيالة الدين الحقيقي من قِبل الدائن

ص:61


1- 1) يقال لها في الفارسيّة : « سفته » .

على شخص ثالث بأقلّ من الدين أم لا؟

و ملخّص القول فيها : أنّه إن كان الدين مكيلاً أو موزوناً ، كما لو لكان لشخص في ذمّة آخر مقدار من الحنطة أو الذهب أو الفضّة ، لا يصحّ بيعه من جنس ذلك بأقلّ منه أو أكثر ؛ و بما أنّ الورقة المذكورة علامة ، و التعامل إنّما يقع على ما في الذمّة ، و المفروض أنّه مكيل أو موزون ، فلو بيع من جنسه بأقلّ أو أكثر صارت المعاملة ربويّة و باطلة .

أمّا لو كان الدين غير ربوي ، أو كان ربويّاً و اريد بيعه بغير جنسه ، فلا مانع من بيعه بأقلّ أو أكثر ، فيبيع الدائن ماله بذمّة المدين إلى الشخص الثالث بأقلّ منه ، و لا تكون المعاملة ربويّة ؛ إذ شرط الربا في البيع غير متحقّق ، و لا قرض في البين حتّى يقال : إنّه لا يعتبر في الرضا في القرض كونه من المكيل أو الموزون ، و هذا واضح جدّاً .

نعم ، لا يصحّ جعل الثمن ديناً ، فإنّه حينئذٍ من قبيل بيع الدين بالدين ، و هو غير صحيح .

و بعد هذه المعاملة يصير المدين مديوناً لذلك الشخص الثالث ، و له بعد ذلك مطالبة المدين بالمبلغ المذكور في الموعد المقرّر .

جواز تحويل كمبيالة الدين الصوري بأقلّ منه على غير الدائن :

الجهة الثالثة : في التعامل على كمبيالة المجاملة ، بتحويلها من قِبل الدائن الصوري على غيره ، في مقابل ما هو أقلّ من قيمتها الماليّة .

و قد يستشكل فيه : بأنّه إمّا أن يكون على نحو البيع و الشراء ، أو يكون على نحو القرض ، فإن كان على نحو البيع بطل ، من ناحية أنّ الدين صوري ، و المدين

ص:62

الصوري ليست ذمّته مشغولة ، فلا شيء حتّى يباع و يقع البيع عليه .

و إن كان على نحو القرض : فإمّا أن يستقرض الدائن الصوري لنفسه من الشخص الثالث مبلغاً كثمانية و تسعين توماناً نقداً بمائة تومان إلى أجل ، و بعد تماميّة هذه المعاملة يحول من استقرض منه على المدين الصوري ليقبض منه المبلغ - أي: مائة تومان في الموعد المحدّد ، و إمّا أن يستقرض وكالة عن المدين له من الشخص الثالث مبلغاً كثمانية و تسعين توماناً نقداً بمائة تومان إلى أجل ، و بعد هذا يستقرض الدائن من موكّله ذلك المبلغ المأخوذ نقداً بمائة تومان إلى الأجل المقرّر .

و على كلا النحوين ، فالتعامل باطل أيضاً من ناحية الربا ، فإنّه في الفرض الأوّل يلزم الربا من ناحية واحدة ، و هي دفع الدائن إلى الثالث مائة تومان ، و في الفرض الثاني يلزم من ناحيتين : فإنّ هناك قرضين ، كلّ منهما ربوي كما لا يخفى .

وجوه تصوير جواز بيع كمبيالة المجاملة :

و لكن يمكن تصوير صحّة البيع الواقع على ورقة الكمبيالة في هذه الصورة بوجوه :

الوجه الأوّل : أن يقال : إنّ المدين الصوري بإعطائه الكمبيالة يضمن لما يصير الدائن بعد ذلك مديوناً به .

و دعوى : أنّه من ضمان ما لم يجب .

مندفعة : بأنّ ضمان ما لم يجب إن كان بنحو يكون المنشأ هو الضمان الفعلي ، لا يجوز ؛ لكونه غير معقول ، و إن كان المنشأ هو الضمان بعد ثبوت الدين لم يدلّ دليل على بطلانه ، و مقتضى العمومات صحّته .

و ما عن التذكرة : من الإجماع على بطلانه ، إن لم يكن الدين ثابتاً في ذمّة

ص:63

المضمون عنه (1)ينافي ما ذكره الأصحاب في كثير من الفروع .

مع أنّه ليس إجماعاً تعبّدياً ، بل هو من الإجماع المنقول ، و هو ليس بحجّة عندنا (2)، و لا يبعد أن يكون مورد كلام العلّامة هو الضمان الفعلي ، و قد عرفت أنّه غير معقول .

و بعد تماميّة هذه المعاملة يشتري المضمون عنه مبلغاً - مثلاً ثمانية و تسعين توماناً نقداً من الشخص الثالث بمائة تومان في ذمّة نفسه إلى شهرين ، و إذا تمّت هذه المعاملة الثانية و ضمّت إلى الاُولى انتقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، و يصير هو مديوناً للشخص الثالث مائة تومان ، و يصير الدائن الصوري مديناً واقعيّاً للمدين الصوري ، و لكن لا يرجع إليه إلّا بعد انقضاء الأجل ، و أداء الدين من ناحية الضامن ، على ما هو مقتضى الضمان .

الوجه الثاني : أن يكون إعطاء الكمبيالة للدائن الصوري إذناً لأن يحول الدائن الشخص الثالث إليه ، و بعد ذلك يتعامل الدائن مع الثالث ، فيشتري الشخص الثالث منه مائة تومان مؤجّلة إلى شهرين بثمانية و تسعين تومان نقديّة .

و بعد تماميّة هذه المعاملة يحول الدائن الصوري الشخص الثالث بأخذ المائة عند الاستحقاق من المدين الصوري ، الذي أصبح مديناً واقعيّاً للثالث بمقتضى الحوالة ، و يصير الدائن الصوري مديناً واقعيّاً للمدين الصوري ، و المبلغ النقدي يكون للدائن الصوري .

الوجه الثالث : أن يكون إعطاء الورقة للدائن الصوري توكيلاً له في إيقاع

ص:64


1- 1) تذكرة الفقهاء ( الطبعة الحجريّة ) : 89/2 .
2- 2) )لاحظ الموسوعة الاُصوليّة لسماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) زبدة الاُصول : 179/4 . [1]

المعاملة للمدين مع الشخص الثالث ، و بعد ذلك يشتري الدائن من الثالث مبلغاً كثمانية و تسعين تومان نقديّة بمائة تومان في ذمّة المدين ، فيصير المدين الصوري مديناً واقعيّاً للثالث ، و المبلغ النقدي يكون له .

و إذا تمّت هذه المعاملة فللدائن أن يشتري المبلغ النقدي من المدين لنفسه بمائة تومان في ذمّته إلى أجل ، أي: يكون وكيلاً في ذلك أيضاً ، فيكون المدين الصوري مديوناً للثالث ، و الدائن مديوناً للمدين ، كلّ منهما بمائة تومان ، و المبلغ النقدي يكون للدائن .

الوجه الرابع : أن يكون توقيع الكمبيالة من المدين توكيلاً في أن يشتري الدائن من الثالث لنفسه مبلغاً نقديّاً ، كثمانية و تسعين تومان بمائة تومان مؤجّلة في ذمّة المدين ، و بعد ذلك يوقع الدائن المعاملة مع الثالث هكذا ، و تكون هذه المعاملة صحيحة بناءً على ما حقّقناه في كتابينا : « منهاج الفقاهة » و« فقه الصادق » (1)من أنّه يصحّ البيع و إن لم يدخل العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوّض ، فإنّ حقيقة البيع : إعطاء شيء بعوض ، و لم يؤخذ في مفهومه المعاوضة الحقيقيّة ، فيصير الدائن مالكاً للمبلغ النقدي ، و المدين مديوناً للثالث .

غاية الأمر : هذه الوكالة لا تكون مجّانيّة ، بل يعطيها المدين للدائن بإزاء مائة تومان في ذمّته ، فيكون هو أيضاً مديوناً لمدينه الصوري .

هذا كلّه فيما إذا أراد تنزيل الورقة المذكورة عند شخص ثالث بأقلّ من الدين ، و أمّا لو أراد أخذ المبلغ النقدي عنه بمقدار يساوي الدين الحقيقي أو الصوري ، فلتصحيحه وجوه أُخر غير الوجوه الأربعة المشار إليها .

ص:65


1- 1) لاحظ : منهاج الفقاهة : 827/3 . [1]فقه الصادق : 189/15 ، 190 . [2]

منها : أن يستقرض الدائن ذلك المبلغ منه للمدين ، بمقتضى الوكالة عنه ، ثمّ يستقرضه لنفسه .

و منها : أن يستقرض منه لنفسه ، ثمّ يحوّله على المدين .

و منها : غير ذلك .

وجه جواز رجوع الشخص الثالث على الدائن :

الجهة الرابعة : قد تحقّق ممّا قدّمناه أنّ الشخص الثالث يرجع إلى المدين الواقعي ، أو الصوري - أي: صاحب الورقة و لا يكون الدائن مديوناً له كي يرجع إليه ، و لكن بناء المتعاملين في الخارج على أنّ الدائن مسئول عن المبلغ ، لو تخلّف المدين عن دفعه عند الاستحقاق .

فيقع الكلام في بيان الوجه الشرعي لذلك ، و الذي يمكن أن يقال في المقام و يذكر وجهاً لذلك أمران :

الأمر الأوّل : تطبيق ذلك على الشرط الضمني ، و بيانه يتوقّف على بيان مقدّمتين :

الاُولى : إنّ للدائن - الذي هو طرف المعاملة مع الشخص الثالث بأحد الأنحاء المتقدّم ذكرها أن يشترط في ضمن العقد للشخص الثالث ، بالتزامه بأداء المبلغ لو لم يدفع المدين عند الموعد المحدّد ، و لو اشترط ذلك يكون الدائن ملزماً بالأداء لو لم يدفع المدين المبلغ المذكور في ظرف الاستحقاق ، و يكون مسئولاً عنه ، و لو لم يدفع يُلزمه عليه .

الثانية : إنّ بناء العقلاء و إن كان على عدم ترتيب الآثار على الالتزامات

ص:66

النفسانيّة قبل الإنشاء ، إلّا أنّه في الشروط المبنيّة عليها العقود - كتساوي المالين في الماليّة بناؤهم على ترتيب الآثار ، و يرونها بحكم الشروط المذكورة في العقود ، بل هي كذلك ، فإنّ إطلاق العقد ينصرف إليها ، و بالجملة : الشروط المبنيّة عليها العقود ، أي : الشروط الارتكازيّة ، بحكم الشروط التي صرّح بها في العقود .

إذا عرفت هاتين المقدّمتين يظهر لك : أنّه لمّا كانت السلطة قد قرّرت إلزام الدائن بأداء المبلغ في الموعد المقرّر عند امتناع المدين الصوري عن الدفع ، فإنّ ذلك يجعله من الشروط الارتكازيّة العقلائيّة ، فيكون من قبيل التصريح بذلك ، و بهذا يكون الدائن مسئولاً و ملزماً بدفع المبلغ لو تخلّف المدين عن الأداء .

الأمر الثاني : إنّه على الوجه الأوّل لتصحيح المعاملة على الكمبيالة ، و هو : تخريجها على الضمان ، يمكن أن يقال : إنّ الضمان إذا تحقّق ؛ و إن كان أثره انتقال الحقّ من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، و تبرأ ذمّة المضمون عنه - خلافاً للجمهور (1)، حيث إنّ الضمان عندهم : ضمّ ذمّة إلى ذمّة إلّا أنّ ذلك فيما لم يصرّح بخلافه ، و إلّا فيصحّ ما ذكروه للعمومات ، كما أفاده السيّد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى (2)، و إن ضعّفناه (3).

و عليه : ففي المقام لأجل بناء المتعاملين على الرجوع إلى الدائن ، لو تخلّف المدين عن أداء المبلغ في الموعد المحدّد ، يكون ذلك بحكم التصريح ، فللثالث الرجوع إلى كلٍّ منهما ؛ لأنّه مقتضى الضمان بالمعنى المذكور .

ص:67


1- 1) المغني / ابن قدامة : 70/5 .
2- 2) العروة الوثقى : 406/5 . [1]
3- 3) فقه الصادق : 152/20 و 153 . [2]

حكم ما يأخذه الثالث عند تأخّر الدفع :

الجهة الخامسة : إنّ المتعارف عند النّاس في هذه المعاملة ، أنّه إن تأخّر المدين عن دفع المبلغ المقرّر بعد حلول الموعد ، يأخذ الثالث - سواء كان هو البنك أو غيره مبلغاً بإزاء التأخير ، فيقع الكلام في بيان موقف الشريعة المقدّسة من ذلك .

و الأصحاب ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) ذكروا هذه المسألة تحت عنوان : « تأجيل الثمن الحالّ بأزيد منه » ، و عن الحدائق : نفي الخلاف في عدم جوازه (1).

و تنقيح القول فيه يقتضي البحث في مقامين :

الأوّل : فيما تقتضيه القواعد .

الثاني : في مقتضى النصوص الخاصّة .

أمّا المقام الأوّل : فتارةً يجعل الأجل في مقابل الزيادة ، باشتراطه ابتداءً أو في ضمن عقد ، أو المصالحة عليه ، أو بيعه به .

و اخرى : يجعل المجموع المؤجّل في مقابل المجموع الحالّ ، بحيث تكون المعاوضة بين المبلغ الذي يكون مديوناً به ، و بين مجموع ما جعل مؤجّلاً .

و ثالثةً : يوقع الصلح على إبراء الحال ممّا في ذمّته بإزاء ما هو أزيد منه مؤجّلاً ، فيكون المعوض هو الإبراء .

أمّا الصورة الاُولى : فالظاهر أنّها بجميع فروضها من الربا في القرض ؛ لأنّ حقيقة الربا فيه راجعة إلى جعل الزيادة في مقابل إمهال المقرض و تأخيره

ص:68


1- 1) حكاه عنه الشيخ الأعظم (قدس سره) في : المكاسب : 221/6 ، و [1]لم أعثر عليه في كلمات صاحب الحدائق (قدس سره) ، فلاحظ : الحدائق الناضرة : 134/19 .

المطالبة ، من غير فرق بين أن يكون في أوّل القرض أو بعد مضيّ زمان ، و من غير فرق بين أن يكون ذلك بنحو الشرط أو غيره .

و أمّا الصورة الثانية : فإن كان ما في ذمّته من العروض الربويّة ، كالحنطة ، بطل ما يوقع عليه من البيع المزبور ، أي: بيعه بأزيد منه مؤجّلاً ، للربا في البيع .

و إن كان من النقدين بطل أيضاً ؛ لأنّه لا يجوز بيع الصرف إلّا يداً بيد .

و إن كان من العروض غير الربويّة ، أو الأثمان غير النقديّة كالأوراق النقديّة ، فبيعه بأزيد منه ، و إن كان لا إشكال فيه من حيث الربا ؛ لعدم كون المبيع ربويّاً ، و لا قرضاً كي يجري الربا فيه ، إلّا أنّ ذلك من جهة كونه من بيع الدين بالدين لا يجوز .

اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ ظاهر بيع الدين بالدين كون العوضين ديناً قبل العقد ، و لا يشمل ما لو صار أحدهما ، أو كلاهما ، ديناً بالعقد ، كما في المقام ، فإنّ الثمن يصير ديناً بالعقد ، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه (1).

و أمّا الصورة الثالثة : فالظاهر فيها الصحّة ، كما لا يخفى .

و أمّا المقام الثاني : فقد استدلّ الشيخ الأعظم (ره) للبطلان باُمور :

الأوّل : ما نقله عن مجمع البيان (2)، من الخبر الوارد لبيان مورد نزول آية حرمة

ص:69


1- 1) راجع الموسوعة الفقهية الكبرى ( فقه الصادق ) [1] لسماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) : 46/20 .
2- 2) مجمع البيان : 206/2 ، عن ابن عبّاس : أنّه كان الرجل من أهل الجارية ، إذا حلَّ دينه على غريمه فطالبه ، قال المطلوب منه : زدني في الأجل أزيدك في المال ، فيتراضيان عليه و يعملان به ، فإذا قيل لهم : ربا ، قالوا : هما سواء ، يعنون بذلك : أنّ الزيادة في الثمن حال البيع ، و الزيادة فيه بسبب الأجل ، عند حلول الدين سواء ، فذمّهم اللّه و ألحق بهم الوعيد ، و خطأهم في ذلك بقوله : (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا) سورة البقرة : الآية 275 . [2]

الربا ، بتقريب : أنّه يدلّ على أنّ سبب نزولها في حرمة الربا : الزيادة المفروضة ، و هي ما جعل في قبال تأجيل الدين الحالّ .

و فيه : إنّ ظاهره الصورة الاُولى ، و لا يشمل الصورتين الأخيرتين ، سيّما الثانية منهما .

الثاني :

صحيح الحلبي عن الإمام الصادق (ع) : في الرجل يكون عليه الدين إلى أجل مسمّى ، فيأتيه غريمه فيقول : أنقذني من الذي لي كذا و كذا ، و أضع لك بقيّته ، أو أنقد لي بعضاً ، و أمدّ لك في الأجل فيما بقي عليك ، قال : « لا أرى به بأساً ، ما لم يزدد على رأس ماله شيئاً ، يقول اللّه : ( فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) (1)» (2).

بدعوى : أنّه علّل جواز التراضي على تأخير أجل البعض بنقد البعض ، بعدم الازدياد على رأس ماله ، فيدلّ على أنّه لو زاد على رأس ماله لم يجز التراضي على التأخير .

و لكنّ الظاهر من الحديث هو المعاملة على التأجيل نفسه ، و لا يكون له نظر إلى بيع الحال المؤجّل ، أو إيقاع الصلح على إبراء الحال بأزيد منه مؤجّلاً .

الثالث : النصوص الواردة في تعليم طريق الحيلة لجواز تأخير الدين بزيادة ، باشتراط التأخير في ضمن معاوضة غير مقصودة للفرار من الحرام ، فلو جاز التراضي على التأجيل بزيادة لم يكن داعٍ إلى التوصّل بأمثال تلك الحيل (3).

ص:70


1- 1) سورة البقرة : الآية 279 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 7 من أبواب كتاب الصلح ، الحديث 1 . [2]
3- 3) المكاسب : 222/6 و 223 . [3]

و مراده من النصوص : موثّق إسحاق بن عمّار ، قلت لأبي الحسن (ع) : يكون لي على الرجل دراهم ، فيقول : أخّرني بها و أنا اربحك ، فأبيعه جبّة تقوم علَيَّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم - أو قال : بعشرين ألفاً و اؤخّره المال ؟ قال (ع) : « لا بأس » (1).

و موثّق محمّد بن إسحاق ، عن الإمام الرضا (ع) : قلت له : الرجل يكون له المال ، فيدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم ، و يؤخّر عنه المال إلى وقت ؟ قال (ع) : « لا بأس به ، قد أمرني أبي ففعلت ذلك » ، و زعم أنّه سأل أبا الحسن (ع) عنها ، فقال (ع) : مثل ذلك (2)، و نحوهما غيرهما .

و الجواب : أنّه بعد وضوح عدم جواز التأجيل بالزيادة ، فإنّ الرواة في هذه النصوص للفرار من الحرام ذكروا وجهاً ، و المعصوم (ع) نفى عنه البأس ، و هذا لا يدلّ على أنّه لا طريق آخر ، و لو بنحو الصلح على إبراء الحال بإزاء ما هو أزيد منه مؤجّلاً .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ أخذ الزيادة بإزاء التأجيل حرام ، و للتخلّص من ذلك طرق :

الطريق الأوّل : أن يصالح على إبراء الحال ممّا في ذمّته ، بإزاء ما هو أزيد منه مؤجّلاً ، فالمعوض هو الإبراء .

الطريق الثاني : أن يبيعه المجموع الحال بمجموع ما جعل معوضاً ، على إشكال فيه ، من ناحية كونه بيع الدين بالدين .

الطريق الثالث : أن يبيعه المديون شيئاً بأضعاف قيمته ، و يشترط عليه أن

ص:71


1- 1) الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام العقود ، الحديث 4 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام العقود ، الحديث 6 . [2]

يؤخّره المال إلى أجل معيّن ، و هو الذي تضمّنته النصوص المتقدّمة .

و دعوى : أنّه معاملة سفهيّة أو صوريّة ، لا تشملها عمومات الصحّة .

مندفعة : بأنّه مع الشرط المذكور لا تكون المعاملة سفهيّة و لا صوريّة ، مع أنّه لم يدلّ دليل على بطلان البيع السفهي ، بل الدليل دلّ على بطلان بيع السفيه ، مضافاً إلى كون هذا اجتهاداً في مقابل النصّ ، المصرّح بنفي البأس .

الطريق الرابع : أن يهبه المدين مبلغاً ، و يشترط عليه أن لا يطالبه بالدين الحالّ إلى أجل معيّن ، أو يشترط عليه تأجيل ذلك الدين الحالّ بنحو شرط النتيجة ، بناءً على ما حقّقناه في الجزء السادس من كتابنا ( منهاج الفقاهة ) ، و الجزء الثامن عشر من كتابنا فقه الصادق من صحّته (1)، أو يشترط أن يؤجّله الدائن بنحو شرط السبب .

ص:72


1- 1) لاحظ : منهاج الفقاهة : 290/6 ، [1]فقه الصادق : 63/18 . [2]

المسألة الخامسة الحوالات المستحدثة

اشارة

و تقرأ فيها :

أقسام الحوالات المستحدثة

بحث حول ( الضمان المستحدث )

دليل مشروعيّة ( الضمان المستحدث )

وجه رجوع المضمون له على الضامن

وجه رجوع الضامن على المضمون عنه

ص:73

ص:74

قد تداول بين التجّار أخذ الزيادة و إعطاؤها في الحوالات ، المسمّى عندهم ب « صرف البرات » ، و يطلقون عليه : بيع الحوالة و شراؤها ، فينبغي بيان حكم الحوالات في الشريعة المقدّسة .

أقسام الحوالات المستحدثة :

و هي على أقسام :

القسم الأوّل :

أن يدفع الشخص إلى التاجر مبلغاً ، و يأخذ ذلك المبلغ بعينه من طرفه في بلد آخر ، و الظاهر أنّ الحكم فيه خالٍ عن الإشكال ، سواء كان ذلك بعنوان البيع ، بأن يبيع المبلغ المعيّن - مثلاً : مائة تومان بمبلغ يساويها يُدفع له في بلد آخر ، أو بعنوان القرض ، بأن يقترض منه ، أو يقرضه ذلك المبلغ ليسلّمه في بلد آخر .

أمّا إذا كان بعنوان البيع ، فواضح .

و أمّا إذا كان بعنوان القرض ، فلعدم الزيادة فيه .

و قد استشكل فيه بعض الأساطين (1)مع كون المصلحة للمقرض لجرّ النفع .

و لكنّه ضعيف ؛ فإنّ الممنوع منه الزيادة في مال القرض عيناً أو صفة ، و ليس

ص:75


1- 1) حكاه المحقّق الكركي (قدس سره) في جامع المقاصد : 33/5 [1] عن الشهيد (قدس سره) في بعض فوائده .

هذا واحداً منها .

مع أنّ جملة من النصوص تدلّ على جوازه :

كخبر يعقوب بن شعيب ، قال : قلتُ لأبي عبد اللّه (ع) : يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إيّاه بأرض اخرى ، و يشترط عليه ذلك ؟ قال (ع) : « لا بأس » (1).

و خبر السكوني ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : قال أمير المؤمنين (ع) : « لا بأس بأن يأخذ الرجل الدراهم بمكّة ، و يكتب لهم سفاتج (2)أن يعطوها بالكوفة » (3).

و خبر أبي الصباح ، عن الإمام الصادق (ع) : في الرجل يبعث بمال إلى أرض ، فقال للذي يريد أن يبعث به : أقرضنيه و أنا اوفيك إذا قدمت الأرض ؟ قال (ع) : « لا بأس » (4).

و خبر إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي جعفر (ع) : يدفع إليَّ الرجل الدراهم فاشترط عليه أن يدفعها بأرض اخرى سوداً بوزنها ، و اشترط ذلك عليه ؟ قال : « لا بأس » (5). و نحوها غيرها ، و هي إمّا ظاهرة في القرض ، أو يكون القرض أظهر مصاديقها .

القسم الثاني :

أن يدفع الشخص مبلغاً للتاجر ، و يأخذ الحوالة من المدفوع إليه بالأقل منه ،

ص:76


1- 1) الوسائل : الباب 14 من أبواب الصرف ، الحديث 1 . [1]
2- 2) قال في القاموس : [2] مادة « سفتج » : السفاتج : جمع سفتجة ، و هي أن يعطي مالاً لآخر ، و للآخر مال في بلد المعطى ، فيوفيه إيّاه هناك فيستفيد أمن الطريق .
3- 3) الوسائل : الباب 14 من أبواب الصرف ، الحديث 3 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 14 من أبواب الصرف ، الحديث 2 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 14 من أبواب الصرف ، الحديث 5 . [5]

و الظاهر أنّه لا إشكال فيه أيضاً ، سواء كان ذلك منزلاً على البيع ، أو القرض .

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّ الأوراق النقديّة ليست من المكيل و الموزون ، فلا يتحقّق الربا البيعي في هذه المعاملة .

و أمّا الثاني : فلأنّ الربا في القرض هو أن يأخذ الدائن من المدين الزيادة مع الشرط ، و أمّا لو كان الشرط نفعاً للمستقرض كما في الفرض ، فإنّ التاجر هو المقترض ، و الزيادة إنّما تجعل له ، فلا يكون رباً ، و يكون جائزاً ، و قد نفى صاحب الجواهر الخلاف في جوازه (1).

و الحاصل : أنّ الربا هو جعل الزيادة للمقرض ، و أمّا الزيادة للمقترض فلا دليل على المنع عنها ، و مقتضى العمومات هو الجواز .

القسم الثالث :

أن يدفع التاجر مبلغاً كمائة تومان للشخص في بلد ، ليأخذه في بلد آخر مع الزيادة ، فإن كان ذلك بعنوان البيع صحَّ لما تقدّم ، و إن كان بعنوان القرض و اشترط ذلك في ضمن القرض بطل ، فإنّه من الربا الممنوع عنه ؛ إذ التاجر في هذا الفرض هو المقرض ، و الزيادة جعلت له ، و لأجل التخلّص من الربا لا بدّ من إعمال بعض الحيل الشرعيّة .

منها : أن يقرض التاجرُ الشخصَ بلا شرط ، و بعد تماميّته يحوّله المقترض لأخذ المبلغ مع الزيادة ، من شخص ثالث في بلد آخر .

ص:77


1- 1) جواهر الكلام : 13/25 . [1]

الضمان المستحدث :

و قد تعارف في هذا الزمان نوع من الضمان ، و هو التعهّد بدفع مبلغ إلى من تعهد لثالث بعمل إذا تخلّف عنه ، و قد يعبّر عنه ب « الكفالة » .

و توضيحه : أنّه قد يتعهّد شخص لآخر ببناء دار - مثلاً بمواصفات معيّنة في مدّة شهرين ، و يتّفق الطرفان على أن يتعهّد ثالث بدفع مبلغ معيّن لو تخلّف المتعهّد الأوّل عمّا تعهّده ، و ذلك الشخص الثالث يقبل ذلك ، و يأخذ عمولة بإزاء تعهّده ، و لنعبّر عن المتعهّد الثاني بالضامن ، و هذا الضمان ليس من الضمان المصطلح ، فإنّه عبارة عن : التعهّد بمال ثابت في ذمّة شخص لآخر ، و لا من الكفالة المصطلحة ، فإنّها عبارة عن : التعهّد و الالتزام لشخص بإحضار نفس له حقّ عليها ، و هذا لا يوجب الضمان .

و كيف كان فالكلام في المقام يقع في موارد :

دليل مشروعيّة الضمان المستحدث :

المورد الأوّل : في أنّ هذا الضمان مشروع أم لا؟ و الظاهر هو المشروعيّة ، فإنّه و إن لم يكن داخلاً تحت أحد عناوين العقود ، إلّا أنّه قد حقّقنا في محلّه : أنّ مقتضى العمومات ، مثل قوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1)، و قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2)، و غيرهما ؛ إمضاء كلّ معاملة عقلائيّة ، و كلّ تجارة عن تراضٍ ،

ص:78


1- 1) سورة النساء : الآية 29 . [1]
2- 2) سورة المائدة : الآية 1 . [2]

ما لم تكن ممّا دلت الأدلّة على فسادها ، و لا اختصاص لها بالعقود المعهودة (1).

و عليه : فبما أنّ هذا الضمان عقد عقلائي و تجارة عن تراض ، و له أركان ثلاثة : الضامن ، و المضمون عنه و هو المتعهّد ، و المضمون له هو المتعهّد له ، و كلّ واحد منهم يستفيد من هذه المعاملة .

أمّا الضامن فبأخذه العمولة ، و أمّا المضمون له فلضمان حقّه ، و أمّا المضمون عنه فواضح ، فهذه تجارة عن تراض قطعاً ، مشمولة للآية الكريمة ، و يترتّب عليها أنّه يجوز له أخذ العمولة .

المورد الثاني : و بما ذكرناه يظهر الحال في هذا المورد ، و هو وجه أخذ المضمون له ، المبلغ الذي تعهّده الضامن ، لو تأخّر المضمون عنه عن القيام بما توافق عليه مع المضمون له .

المورد الثالث : في وجه رجوع الضامن على المضمون عنه فيما دفعه عنه .

و يمكن أن يذكر في وجهه أمران :

الأوّل : تنزيل ذلك على الشرط الضمني ، بتقريب : أنّ المتعاملين كان بناؤهم على ذلك ، و بما أنّ هذا البناء ارتكازي ، فهو : بحكم الذكر في ضمن العقد ، فيرجع إليه بحكم الشرط .

الثاني : إنّ من أسباب الضمان : الأمر المعاملي ، على ما حقّق في محلّه ، و في المقام بما أنّ ضمان الضامن إنّما يكون بأمر و لو ضمني من المضمون عنه ، فهو ضامن لما يخسره الضامن ، و يدفعه بمقتضى العقد إلى المضمون له .

ص:79


1- 1) لاحظ : فقه الصادق : 216/15 و : 213/19 . [1]

ص:80

المسألة السادسة أعمال البنوك

اشارة

و تقرأ فيها :

تنبيه حول أقسام البنوك

العمل الأوّل: إيداع الأمانات

وجوه تصوير جواز الإيداع

العمل الثاني: التوفير

العمل الثالث: الجائزة البنكيّة

العمل الرابع: الاعتماد المستندي

حكم الفائدة التي يأخذها البنك في مقابل اعتماده

حكم بيع البضاعة لو تخلّف صاحبها عن تسليمها

ص:81

ص:82

من الموضوعات المستحدثة : معاملات البنوك و أعمالها .

تنبيه : حول أقسام البنوك :

و قبل البحث عمّا يهمّنا البحث عنه ، لا بدّ و أن يُعلم أنّ للبنوك أقساماً ، و لكن لا اختلاف فيها من الناحية التي أردنا البحث عنها ، فلا وجه لبيان أقسامها في المقام .

و قد تقسم البنوك إلى أقسام ثلاثة : حكوميّة ، و أهليّة ، و مشتركة بين الحكومة و الأهالي ؛ نظراً إلى اختلاف أحكامها (1).

و قد نشأ توهّم هذا الاختلاف من توهّم أنّ الدولة لا تملك ما تحت يدها من الأموال ؛ و لذلك يكون المال الموجود في البنك الحكومي من مصاديق المال المجهول مالكه دون ما هو موجود في البنك الأهلي .

و لكنّ المبنى فاسد ؛ لأنّ الدولة تملك ما تحت يدها من الأموال ؛ إذ الملكيّة أمر اعتباري صرف ، و هي كما تقوم بالكلّي في الذمّة ، تقوم بالأمر الاعتباري ، و بعبارة أوضح : إنّه كما قد يكون المملوك كلّياً ، كذلك قد يكون المالك كلّياً ،

ص:83


1- 1) كما صنع ذلك المحقّق الخوئي (قدس سره) في مسائله المستحدثة ، و تبعه معظم من علّق عليها من أعاظم تلامذته .

كما في باب الخمس و الزكاة على القول بالملكيّة فيهما ، و قد يكون أمراً اعتباريّاً صرفاً كالدولة و الحكومة ، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه (1)، فلا اختلاف بين هذه الأقسام من حيث الحكم .

ثمّ إنّ للبنوك أعمالاً و معاملات لا تكون مستحدثة ، و تلك الأعمال و المعاملات خارجة عن محور هذا البحث ، فإنّه متمحّض في البحث عن المستحدثات ، و على ذلك فما هو محلّ بحثنا فعلاً أعمال أربعة للبنوك :

العمل الأوّل : إيداع الأمانات :

و هي : المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك لمدّة محدودة ، و في تلك المدّة يتصرّف البنك فيها بما يشاء حتّى التصرّفات الناقلة ، و بإزاء ذلك يعطي البنك فائدة للمودع .

و قد يستشكل في ذلك : بأنّ هذا الإيداع إن كان قرضاً ، كان ربويّاً و باطلاً ، و إن كان بعنوان الوديعة ، فلا يجوز للبنك التصرّف فيه تصرّفاً ناقلاً ؛ و إن أذن له صاحبه ، و إن كان تمليكاً مجّانياً ، لزم منه عدم استحقاق صاحب المال شيئاً على البنك بعد ذلك ، و إن كان تمليكاً ضمانيّاً ، كان ذلك قرضاً .

و الجواب : أنّ إيداع المال في البنك يتصوّر فيه وجوه :

الأوّل : أن يبيع المودع ما يودعه في البنك إلى أجل معيّن بأزيد منه ، و هذا لا إشكال فيه ، و قد تقدّم البحث عنه في الأوراق النقديّة (2).

الثاني : أن يكون بعنوان الوديعة ، و الأمانة الشرعية ، و إن كان لا يجوز أن

ص:84


1- 1) لاحظ : فقه الصادق : 14/19 . [1]
2- 2) الصفحة : 52 .

يتصرّف فيها الأمين ، إلّا أنّه إذا لم يأذن صاحب المال فيه ، و أمّا مع إذنه - كما في الودائع لدى البنوك فيجوز التصرّف ، و الإذن المذكور ليس إذناً في التملّك حتّى يقال : إنّه إن كان مجانياً لزم منه عدم استحقاق صاحب المال شيئاً على البنك ، و إن كان ضمانياً ، كان ذلك قرضاً ، بل هو إذن في التصرّف ، مع بقاء المال على ملك صاحبه .

فإن قيل : إنّه لا يمكن تنزيل معاملات البنوك على هذه الصورة ؛ لأنّ لازم ذلك كون ما يشتريه البنك بإزائها لأصحاب تلك الأموال ، و لا يعقل كونه للبنك ؛ إذ كيف تجتمع إباحة التصرّفات الناقلة مع كون العوض ملكاً للمتصرّف ؛ لأنّه لا بدّ أن يدخل أحد العوضين في ملك من خرج العوض الآخر عن ملكه ؛ لكون طبيعة المعاوضة تقتضي ذلك .

أجبنا عنه : إنّه ليس هناك تصرّف متوقّف على الملك ، حتّى البيع فإنّه عبارة عن إعطاء شيء بعوض ، و لم يؤخذ في مفهومه المعاوضة ، و تمام الكلام في محلّه (1).

و عليه : فلصاحب المال أن يأذن للبنك في التصرّف فيما يودعه حتّى التصرّفات الناقلة ، غاية الأمر أنّه لا يكون إذناً في التصرّف الناقل مجّاناً ، بل بعوض ، فيكون البنك ضامناً لعوضه .

هذا من ناحية تصرّفات البنك ، و قد عرفت أنّها جائزة بأجمعها .

و أمّا ما يعطيه إيّاه البنك زائداً عمّا أودعه ، فيمكن أن يقال : إنّه جائز و حلال نظراً إلى الشرط الصريح أو الضمني ، حيث إنّ البنك يلتزم بإعطاء مبلغ يختلف باختلاف المدّة التي يكون المال فيها مودعاً .

ص:85


1- 1) منهاج الفقاهة : 7/3 و 18 . [1]فقه الصادق : 189/15 و 190 . [2]

فالمتحصّل : أنّه لا إشكال في نفس الإيداع ، و لا في تصرّفات البنك ، و لا في أخذ الفائدة .

الثالث : أن يكون بعنوان الإباحة بالعوض ، فيبيح للبنك جميع التصرّفات حتّى الناقلة ، و منها : التملّك بإزاء الأكثر المؤجّل ، و الإباحة بالعوض بنفسها من العقود العقلائيّة ، و تشهد لإمضائها العمومات ، مثل الآية الشريفة : ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1)؛ بناءً على ما تقدّم من عدم اختصاصها بالعقود المعهودة (2).

الرابع : أن يكون الإيداع بعنوان القرض ، و لا توقّف فيه في نفسه من الجهة الشرعيّة ، لو تخلّى عن أخذ الفائدة عليه .

و أمّا من ناحية الفائدة ، فقد يقال : إنّه حيث لا يكون أخذ الفائدة و إعطاؤها من قبل الأمين مأخوذاً شرطاً في عقد القرض ، بل المودع يقرض البنك المبلغ الذي عنده من دون شرط ، و البنك يعطيه مبلغاً تفضلاً ، و هذا ليس من الربا في شيء ، فيكون حلالاً .

و لكن بما أنّ إعطاء الفائدة و إن لم يصرّح به في عقد القرض ، إلّا أنّه ممّا تبانى عليه الطرفان ، و من مرتكزات المتعاملين ، و هو في حكم التصريح فلا يجوز ، و بالجملة : هو شرط ضمني مبنيّ عليه العقد .

فالمتحصّل : أنّه إن كان بعنوان القرض لا يجوز أخذ الفائدة ، و إن كان بعنوان البيع ، أو الوديعة ، أو الإباحة بالعوض جاز ، و لا يبعد دعوى كون المعاملات الخارجيّة على القرض و الفائدة ، فتكون باطلة .

ص:86


1- 1) سورة النساء : الآية 29 . [1]
2- 2) لاحظ الصفحة : 78 . [2]

العمل الثاني : التوفير :

لا فرق بين التوفير و الأمانة ، سوى أنّ الأمانة لا يتمكّن صاحبها من سحبها قبل انتهاء المدّة ، و في التوفير لصاحب المال استرجاع ما أودعه في أي وقت أراد ، و عليه : فيجري فيه جميع ما ذكرناه في الأمانة .

نعم . . في التوفير إذا كانت المعاملة بيعاً ، يكون الشرط ضمنيّاً في العقد ، إن لم يذكر صريحاً فيه ، فيكون لصاحب المال الخيار لنفسه بأن يسترجع ماله في أيّ وقت شاء .

كما أنّه في الأمانة لو نزّلناها على الوديعة ، يشترط ارتكازياً أن لا يرجع صاحبها قبل انتهاء المدّة ، و ليس له ذلك من هذه الجهة .

العمل الثالث : الجائزة البنكيّة :

من جملة أعمال البنوك : أن البنك ربّما يقرع بين أصحاب الأموال ، و يعطي لمن أصابته القرعة مبلغاً معيّناً كجائزة .

و حيث إنّ هذا ليس شرطاً في ضمن عقد القرض ، و لا يكون البنك ملزماً بذلك ، كما لا يكون ملزماً بدفع المبلغ بعد إصابة القرعة ، و إنّما يفعل ذلك تشجيعاً لأصحاب الأموال كي يودعوا أموالهم في البنك ، ليستطيع البنك الانتفاع بها بين فترتي الإيداع و السحب ، فهي جائزة و حلال لا إشكال فيها .

العمل الرابع : الاعتماد المستندي :

اشارة

من أعمال البنك أيضاً : الاعتماد المستندي ، و المراد به : أن يكون العقد قد تمّ بين التاجر و الشركة في خارج البلاد ، أو وكيلها الموجود في البلد ، و خاصّة فيما

ص:87

يتعلّق بالكمّية و السعر و شروط الدفع و التسليم ، و لكن بما أنّ الحكومات تمنع عن إخراج الأموال إلى الخارج من دون أن يكون تحت نظر البنك و إشرافه ؛ لذلك يتقدّم المشتري إلى البنك ، و يطلب فتح اعتماد ، فيدفع للبنك قسماً من قيمة البضاعة ، ثمّ يقوم بعد ذلك بدفع المبلغ بتمامه إلى الشركة ، و يتسلّم البضاعة ، و بعد التسليم يخبر البنك التاجر بوصولها ، فإن دفع التاجر للبنك ما بقي من القيمة يتسلّم البضاعة ، و إلّا فيتصدّى البنك لبيع البضاعة و استيفاء حقّه ، و يأخذ البنك عن هذه العمليّة و بإزائها مبلغاً معيّناً من التاجر .

و الكلام في هذه المعاملة في موردين :

الأوّل : في جواز أخذ البنك من صاحب البضاعة مبلغاً زائداً عمّا دفعه إلى الشركة .

و الثاني : في جواز بيعه البضاعة ، إذا تخلّف صاحبها عن تسلّمها .

المورد الأوّل : حكم الفائدة المأخوذة

و يظهر الحكم ببيان حقيقة هذه المعاملة ، و حاصل الكلام فيها : أنّ المعاملة الواقعة بين التاجر و الشركة معاملة بيعيّة ، مشروطة بتدخّل البنك ، و المعاملة الواقعة بين التاجر و البنك ليست إلّا جعالة ، حيث يشترط التاجر للبنك إذا أدّى عنه دينه أن يدفع إليه أصل المال ، و زيادة يتّفقان عليها .

و إن شئت قلت : إنّ المعاملة بينهما مركّبة من البناء و الالتزام بأن يدفع البنك دَين التاجر مع ضمان التاجر له ، و قيام البنك بتسجيل البضاعة أوّلاً باسمه ، ثمّ نقلها إلى اسم صاحبها ، و غير ذلك من العمليّات التي تحتاج إليها إنّما يكون بإزاء مبلغ معيّن ، و على هذا فالفائدة المأخوذة ليست من باب الفائدة على القرض حتّى يقال :

ص:88

إنّ كلّ قرض جرّ نفعاً فهو رباً ، بل هي مأخوذة بإزاء أعمال البنك .

و على ضوء ذلك : فهل هذه المعاملة معاملة مستقلّة عقلائيّة ، مشمولة للعمومات على ما تقدّم ؟ أم أنّ البناء على أداء الدين ، و أخذ عوضه من المدين ، وعدٌ صِرف ، و جعل العمولة بإزاء عمليّات البنك يكون جعالة ؟ أم أنّها مصالحة بين الطرفين ، على أن يقوم البنك بدفع دين التاجر ، و تسجيل البضاعة باسمه ، و يقوم التاجر بدفع أصل المال و الزيادة المقرّرة ؟

لكلّ وجه .

المورد الثاني : حكم بيع البضاعة لو تخلّف صاحبها عن تسلّمها :

و أمّا لو تخلّف صاحب البضاعة عن التسلّم بعد إعلام البنك إيّاه ، فللبنك أن يقوم ببيعها و استيفاء حقّه من ثمنها .

و الوجه في ذلك : اشتراط ذلك صريحاً في ضمن معاملة التاجر ، و مقتضاه وكالة البنك في البيع و استيفاء حقّه ، فيجوز لغيره الشراء منه .

ص:89

ص:90

المسألة السابعة عقد التأمين

اشارة

و تقرأ فيها :

تأريخ التأمين

حقيقة التأمين و أقسامه

حكم القسم الأوّل من التأمين في الشريعة المقدّسة

تطبيقات معاملة التأمين على المعاملات الشرعيّة

الضمان

الهبة المعوضة

الصلح

بحث حول ( الضمان )

تقريب كون معاملة التأمين معاملة مستقلّة

الإشكالات المثارة حول معاملة التأمين و الجواب عنها

حكم القسم الثاني عن التأمين و التأمين التبادلي

حكم الفوائد الجانبيّة التي تدفعها بعض شركات التأمين

ص:91

ص:92

تأريخ التأمين

من المعاملات المستحدثة : عقد التأمين ، و قد ذكر علماء القانون الباحثون في العقد : إنّ تاريخ ظهوره في البلاد الأوربيّة يرجع إلى أوائل القرن الرابع عشر الميلادي ، و أمّا في بلادنا فلم يعرف إلّا في القرن الثالث عشر الهجري ، بعد الاتّصال التجاري بين الشرق و الغرب ، أبّان النهضة الصناعيّة في اوربا ؛ و ذلك عن طريق التأمين على ما كان يستورد من تلك البلاد ، و كان الابتداء بالتأمين البحري .

و لكن بعد ذلك قد شاع و ذاع و تنوّع ، و بلغ من الشأن مبلغاً ، جعله يرافق حياة الأكثر في معظم مسالكها و مرافقها ، من التجارة و الصناعة و الوسائل التي يستخدمها الإنسان كسيّارته و غيرها ، فيجب بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منه .

حقيقة التأمين :

و قد عُرِّف عقد التأمين في المادة : ( 713 ) من القانون المدني المصرى بأنّه : « عقد بين طرفين : أحدهما يسمّى المؤمِّن ، و الثاني المؤمَّن له أو المستأمن ، يلتزم فيه المؤمِّن بأن يؤدّي إلى المؤمَّن له لمصلحته مبلغاً من المال ، أو إيراداً مرتباً ، أو أي عوض مالي آخر ، في حالة وقوع حادث ، أو تحقّق خطر مبيّن في العقد ، و ذلك في مقابل قسط ، أو أيّة دفعة ماليّة اخرى ، يؤدّيها المؤمَّن له إلى المؤمِّن .

فنتيجة هذا العقد عملان : يقوم المؤمَّن له بعمل منهما ، و هو دفع مبلغ من المال

ص:93

دفعيّاً أو تدريجيّاً بالشكل الذي اتّفق عليه الطرفان ، و يقوم المؤمِّن بالآخر منهما ، و هو : أنّ الخطر المؤمَّن ضدّه - كالحريق مثلاً إذا تحقّق تكون خسارته عليه .

هذه هي حقيقة التأمين الشائع اليوم ، الذي نُظّمت له أحكام في القوانين المدنيّة ، و هناك قسم آخر من التأمين يسمّى : التأمين التبادلي ، أو التأمين بالاكتتاب ، و هو عبارة عن : اتّفاق جماعة على تكوين رأس مال مشترك ، لتعويض ما يحيق بأحدهم من الخسارة ، و إن شئت قلت : إنّ أساسه إنشاء صندوق تعاوني ، مشترك بين جماعة ، يكتتبون فيه لجبر أضرار مَن تصيبه منهم نوائب معيّنة .

حكم القسم الأوّل من التأمين في الشريعة المقدّسة :

اشارة

و سوف نتكلّم هنا عن القسم الأوّل من التأمين أوّلاً ، ثمّ نعقبه بالبحث عن القسم الثاني من التأمين : ( التأمين التبادلي ) .

أنواع التأمين :

اشارة

للقسم الأوّل من التأمين أنواع : كالتأمين على الحياة ، و التأمين على النقل ، و التأمين على حوادث السيّارات ، و التأمين على الحريق و السرقة ، إلى غير ذلك من الأنواع ، و لعلّه لا يمكن حصره في أنواع معيّنة ؛ لأنّه طوق الصناعة و التجارة ، و معظم وجوه النشاط الاقتصادي ، بل شمل كثيراً من الوسائل التي يستخدمها الإنسان في توفير راحته و طمأنينته في هذه الحياة ، بل و يمدّ ظلاله إلى ما بعد ممات الإنسان ، فيتّخذ منه المؤمن في حياته تدبيراً لمصلحة اسرته بعد وفاته ، فأنواعه تزداد مع مرور الزمن ، إلّا أنّه لا يهمّنا استقصاء أنواعه بعد كونها مشتركة فيما تقتضيه القوانين الإسلاميّة .

ص:94

تطبيق معاملة التأمين على المعاملات الشرعيّة :
اشارة

و بما أنّ هذه المعاملة من المعاملات المستحدثة ، فلا بدّ في الحكم بصحّتها من عرضها على المعاملات المعهودة الشرعيّة ، و تطبيقها على واحدة منها .

أو إثبات أنّ الشارع الأقدس أمضى كلّ معاملة عقلائيّة ، و إن لم تكن متحقّقة في تلك الأعصار .

و على هذا ، فلا بدّ من البحث في موضعين :

الموضع الأوّل : في عرض التأمين على المعاملات الشرعيّة .

و المعاملات التي قيل بانطباقها على هذه المعاملة هي : الضمان ، و الهبة المعوضة ، و الصلح ، و الكلام يقع أوّلاً في الضمان .

التطبيق الأوّل : تطبيق معاملة التأمين على الضمان :

و من المعلوم أنّ الضمان الذي هو عبارة عن : إدخال المضمون في عهدة الضامن ، له قسمان :

أحدهما : ضمان اليد و التلف .

و ثانيهما : الضمان الإنشائي ، و محلّ الكلام هو الثاني .

و الضمان الإنشائي الذي لا ريب في مشروعيّته في الجملة نصّاً و فتوى ، القدرُ المسلّم منه عند الفقهاء ، هو : ضمان ما في الذمّة ، أي: ضمان شخص لما هو ثابت في ذمّة آخر .

و أمّا ضمان الأعيان المغصوبة ، كما لو غصب شخص مال آخر ، فضمن شخص آخر عين ذلك المال ، و ضمان الأمانة ، كما لو ضمن الشخص الأمانة التي عند

ص:95

الشخص الآخر ، فقد وقع الخلاف فيهما بين الفقهاء (1).

و هناك قسم آخر لم يتعرّض له الفقهاء ، و هو : ضمان الأعيان التي تكون عند أصحابها ، كأموال النّاس في متاجرهم ، و حكم هذا القسم حكم القسمين الأخيرين .

و محصّل ما ذكروه في وجه بطلان الضمان في القسمين الأخيرين ، و اختصاصه بما في الذمم وجوه ، و إن اختصّ بعض الوجوه بالأوّل ، و بعضها بالثاني :

الأوّل : إنّه لا دليل على العموم ، و أخبار باب الضمان كلّها واردة في ضمان ما في الذمّة ، و بيان أحكام اخر ، و ليس في شيء منها ما له إطلاق أو عموم يمكن أن يتمسّك به لمشروعيّة الضمان بقول مطلق ، و ما يروى عن النبيّ (ص) من أنّ : « الزعيم غارم » (2)، ليس من الأخبار المعتمدة عندنا ، فلا يكون حجّة .

و فيه : إنّ أدلّة الضمان الإنشائي المختصّة به ، و إن كان لا إطلاق لها كي يتمسّك به ، إلّا أنّ ما دلَّ على نفوذ كلّ عقد و معاملة عقلائية ، كآية : ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (3)، و : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (4)، و غيرهما ، له إطلاق يشمل هذه الأقسام من الضمان بأجمعها .

الثاني : و هو مختصّ بالقسم الأوّل : إنّ المضمون عنه أيضاً كالغاصب مكلّف بردّ العين ، فلو قلنا بمشروعيّة هذا الضمان كان من قبيل ضمّ ذمّة إلى اخرى ، مع أنّ

ص:96


1- 1) للاطّلاع على كلمات أعلام الطائفة (قدس سره) لاحظ : جواهر الكلام 140/26 و 141 . [1]
2- 2) مسند أحمد بن حنبل : 267/5 . سنن ابن ماجة : 804/2 .
3- 3) سورة النساء : الآية 29 . [2]
4- 4) سورة المائدة : الآية 1 . [3]

مذهبنا كون الضمان موجباً للانتقال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن (1).

و فيه : إنّ الضمان المصطلح في ضمان ما في الذمّة ، هو الانتقال ، و هذا لا يوجب المنع من الضمان بالمعنى الآخر في المقام الثابت بالعمومات .

مع أنّه لا مانع من الالتزام في المقام أيضاً بالانتقال ، فيكون بقاء المال بيد الغاصب أمانة ، غاية الأمر يجب ردّه فوراً إلى مالكه ، و لو لم يقصر في الردّ عليه ، و تلف في أثناء ذلك ، يكون ضمانه على الضامن دون الغاصب ، و لو قصّر تكون يده بقاءً يد ضمان ، فيكون ضامناً من جديد .

و بما ذكرناه يظهر الجواب عن الثالث ، و هو : إنّ الضمان نقل الحقّ من ذمّة إلى اخرى ، فلا ينطبق على الضمان بمعنى : كون العين في العهدة .

الرابع : إنّ ضمان الأعيان ، سواء كان المراد به نقلها عن عهدة ذي اليد إلى عهدته ، أو ضمّها إليها ، يحتمل كونه من الأحكام الشرعيّة ، لا من الاُمور التي بيد النّاس وضعاً و رفعاً ، و مع هذا الاحتمال لا وجه للتمسّك بالعمومات .

و فيه : إنّ الرجوع إلى المرتكزات العقلائيّة يدفع هذا الاحتمال ، فإنّ العهدة و الذمّة من باب واحد ، فكما أنّ ما في الذمّة قابل للنقل و الضمّ ، كذلك ما في العهدة من الأعيان .

الخامس : إنّه من ضمان ما لم يجب ، فإنّ الملتزم به مثلها أو قيمتها في صورة التلف ، و قد اشتهر في الألسن عدم صحّته .

و فيه : إنّ الالتزام بكون العين في العهدة ليس من ضمان ما لم يجب ، مع أنّ ضمان

ص:97


1- 1) لاحظ ما حقّقه السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) في موسوعته الكبرى فقه الصادق : 152/20 . [1]

ما لم يجب إنّما يكون باطلاً إذا كان المنشأ هو اشتغال الذمّة بالبدل فعلاً ، و أمّا إذا كان المنشأ هو الاشتغال به بعد التلف فلا محذور فيه ، و تمام الكلام في محلّه .

السادس : و هو يختصّ بالقسم الثاني : إنّ من أركان الضمان المضمون عنه ، و هو المدين ، و هو مفقود في الضمان في الأمانة ، بل و في ضمان العين المغصوبة ؛ لأنّه ضمان ابتدائي ، لاعن الغاصب .

و فيه : إنّه لا يعتبر في الضمان وجود المضمون عنه ، بل أركانه ثلاثة : الضامن ، و المضمون له ، و المضمون .

فالمتحصّل : إنّ مقتضى العمومات جواز الضمان بجميع أقسامه ، حتّى ضمان العين التي بيد صاحبها ، و ليس هناك ما يمنع عنه ، فالأظهر هو الجواز .

و هذا الضمان ، أي: ضمان ما عند صاحبه ، يتصوّر على وجهين :

أحدهما : الضمان بلا عوض .

و ثانيهما : الضمان مع العوض ، كأن يقول الضامن لصاحب المال : أضمنُ لك العين سنة ، على أن تعطيني عوضاً عن ذلك عشرة توامين عن كلّ شهر .

و الأظهر صحّته بكلا القسمين .

إذا عرفت هذا فاعلم : إنّ عمليّة التأمين تنطبق على ضمان الأعيان غير المضمونة ، فإنّ المؤمِّن يضمن ، أي: يتعهّد و يدخل الشيء في عهدته و حيازته في عملية التأمين ، سواء كان ذلك من الأعيان الخارجيّة ، أو النفوس الحرّة أو المملوكة ، غاية الأمر ليس ضماناً مجّانيّاً ، بل بعوض معيّن ، يشترط على المؤمَّن له أن يدفعه دفعة أو أقساطاً .

و لا يهمّنا البحث عن كون هذه المعاملة إيقاعاً ، من جهة حصولها من طرف

ص:98

واحد و هو الضامن ، فإنّه المقدم على تحمّل المسئوليّة ، أو أنّها عقد من جهة أنّها تشتمل على الإيجاب من ناحية المؤمِّن ( الشركة ) ، بتصديره وثيقة التأمين و توقيعها ، و القبول من المؤمَّن له بتوقيع ورقة العقد ، بعد كون المختار صحّة الشرط و لزوم الوفاء به ، و إن كان في ضمن الإيقاع ، و لكن الأظهر أنّها من العقود ، كما تقدّم .

فتحصّل : أنّ عمليّة التأمين من قبيل ضمان الأعيان التي عند أصحابها ، غاية الأمر : إنّه ضمان مشروط بدفع المؤمَّن له مبلغاً أقساطاً إلى مدّة معيّنة .

و قد يستشكل في صحّة هذه المعاملة من جهة امور اخر ، مثل كون المعاملة غرريّة و نحو ذلك ، و نتعرّض لجميع الاشكالات في آخر المبحث إن شاء اللّه تعالى .

التطبيق الثاني : تطبيق معاملة التأمين على الهبة المعوضة :

و إن أبيت عمّا ذكرناه ، و لم يثبت لك مشروعيّة الضمان على غير ما في الذمم ، يمكن تطبيق عملية التأمين على الهبة المعوضة ، بأن يهب المؤمَّن له في كلّ سنة ، أو شهر ، مبلغاً للمؤمِّن ( الشركة ) و يملّكه مجّاناً ، و يشترط عليه أن يملّكه مبلغاً يعادل قيمة المؤمَّن عليه ، إن حدث حادث بالمال - مثلاً أو كذا مقداراً من المال إن حلّ به موت ، أو تلف لعضو من أعضائه ، يدفعه لاُسرته مثلاً .

أو يشترط عليه ملكيّته بنحو شرط النتيجة ، و هذا شرط سائغ لا مانع منه ، فيكون التأمين من مصاديق الهبة المعوضة ، و تترتّب عليه أحكامها .

التطبيق الثالث : تطبيق معاملة التأمين على الصلح :

و يمكن تطبيقه على الصلح أيضاً : فإنّ حقيقة الصلح هي : التراضي و التسالم على أمر ، من تمليك عين ، أو منفعةٍ ، أو إسقاط دين ، أو حقّ ، أو غير ذلك .

و لا يشترط فيه كونه مسبوقاً بالنزاع ، بل هو جائز في كلّ مقام ، و على كلّ

ص:99

أمر ، إلّا إذا كان محرّماً لحلال أو محلّلاً لحرام ، و هو عقد مستقلّ بنفسه ، و عنوان برأسه ، و ليس - كما قيل راجعاً إلى سائر العقود ، و إن أفاد فائدتها ، و تنقيح القول في هذه الجهات موكول إلى محلّه (1).

و عليه : ففي المقام يتسالم المؤمِّن و المؤمَّن له ، على أن يدفع المؤمَّن له مبلغاً أقساطاً أو دفعة ، و يتحمّل المؤمِّن الخسارة التي تحلّ بالمؤمَّن له ، أو يدفع له مقداراً من المال لو تلف بعض أعضائه ، أو لاُسرته - مثلاً لو حلَّ به الموت .

تقريب كون معاملة التأمين معاملة مستقلّة :

و لو لم يتمّ ما ذكرناه من تطبيق عقد التأمين على واحدة من المعاملات المعهودة ، نقول : إنّه عقد مستقلّ مركّب من الإيجاب و القبول ، على ما مرّ تقريبه . و عليه: فتشمله عمومات إمضاء المعاملات ، كقوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2)، و قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3)، و تخصيصها بالعهود و العقود التي كانت متعارفة في زمن صدورها بلا وجه ، بعد كونها متضمّنة لبيان الحكم الخالد الباقي في جميع الأعصار ، و كونها من قبيل القضايا الحقيقيّة .

الإشكالات المثارة حول معاملة التأمين و الجواب عنها :

بقي في المقام إشكالات تورد على تصحيح هذه المعاملة بما أنّها عقد مستقلّ ،

ص:100


1- 1) لاحظ ما أفاده سماحة الاُستاذ في موسوعته العظمى ( فقه الصادق ) : 189/20 . [1]
2- 2) سورة النساء : الآية 29 . [2]
3- 3) سورة المائدة : الآية 1 . [3]

و بعضها يجري في بعض الوجوه المتقدّمة ، و هي امور :

الأوّل : إنّ هذه المعاملة ليست معاوضة حقيقيّة ، بل معاوضة احتماليّة ، فإنّ أحد العوضين هو تحمّل الخسارة على تقدير وقوع الخطر المؤمَّن منه ، فلا عوض على تقدير عدم وقوعه ، و هذه ليست مشمولة للعمومات ، بل هي من أكل المال بالباطل .

و فيه : إنّ المؤمَّن له يدفع مبلغاً أقساطاً - مثلاً بإزاء كون ماله محفوظاً ، فكما أنّه قد يستأجر شخصاً لحفظ ماله ، و يكون ذلك من طرق الحفظ ، كذلك التأمين من طرق الحفظ ، بل هو من أحكام نفس المعاملة ، و هذا الأمان و الحفظ يحصل للمستأمنين بمجرّد العقد ، من دون توقّف على الخطر المؤمَّن منه بعد ذلك ، فإنّه بعد هذا الأمان لا يفرّق عليه وقوع الخطر و عدمه ؛ إذ لو لم يقع الخطر ظلّت أمواله سليمة ، و إن وقع الخطر أحياها التعويض ، فهي معاملة حقيقيّة بتية ، و ليست من الأكل بالباطل .

و إن شئت قلت : إنّ العوض إن كان كون المال في عهدة المؤمِّن ، فهو فعليّ ، و إن كان إعطاء بدله على تقدير التلف فهو بنفسه لا يكون فعليّاً ، لكن لازمه وجود الأمان الفعلي ، فعلى التقديرين هذه معاملة بتّية ، و تجارة عن تراض ، و عقد من العقود .

و بهذا البيان يظهر الجواب عن الإشكال الثاني :

و هو : أنّ هذه المعاملة غررية ، فإنّه يحتمل عدم وقوع الخطر المؤمَّن منه ، و قد نهى النبيّ (ص) عن الغرر (1)، فإنّه مع حصول الأمان الفعلي لا غرر و لا خطر .

ص:101


1- 1) رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن غير واحد من الرواة ، منهم : ابن عبّاس ، و ابن عمر ، و أبو هريرة ، فلاحظ : 144/2 و : 302/1 .

أضف إلى ذلك : أنّ المتيقّن هو النهي عن بيع الغرر ، لا مطلق الغرر ، و هذا ليس بيعاً .

الثالث : إنّ عقد التأمين على الحياة ينطوي على جهالة ؛ لأنّ الأقساط التي يدفعها المستأمن إلى حين وفاته لا يعلم كم ستبلغ ؟ و الجهالة تمنع صحّة العقد شرعاً .

و فيه : إنّ الجهالة مانعة عن صحّة البيع ، و بعض العقود الاُخر ، و لم يدلّ دليل على مبطليّتها من حيث هي لكلّ عقد .

الرابع : إنّ عقد التأمين فيه تحدٍّ للقدر الإلهي ، لا سيّما في التأمين على الحياة .

و فيه : إنّ المؤمِّن لا يتعهّد عدم وقوع الخطر ، حتّى يقال : إنّه تحدٍّ للأقدار ، بل هو يتعهّد بترميم آثار الأخطار إذا تحقّقت و وقعت ، كما لا يخفى .

فالمتحصّل : هو تصحيح عقد التأمين من وجوه و طرق مختلفة .

حكم القسم الثاني من التأمين : « التأمين التبادلي » في الشريعة :

و قد وعدنا في أوّل البحث بيان حكم التأمين التبادلي ، و هو : اتّفاق جماعة على تكوين رأس مال مشترك ، لتعويض ما يحيق بأحدهم من الخسارة .

و ملخّص الكلام فيه : إنّه يمكن تصحيحه بوجوه :

أحدها : بتخريجه على الضمان ، بناءً على مشروعيّة ضمان الأعيان غير المضمونة ، كما هو الحقّ ، و بيانه : إنّ ما يعطيه كلّ واحد شهرياً أو سنوياً يكون باقياً على ملكه ، و لكن كلّ من أفراد الشركة يضمن أموال الآخرين لا بتمامها ، بل بنسبة خاصّة تابعة لمقدار مال كلّ منهم ، و يكون هذا الضمان مشروطاً بجعل مقدار من

ص:102

المال شهريّاً ، أو سنوياً لدى الشركة ، فمثلاً : يجتمع عشرة على تكوين رأس مال ، و يجعل كلّ واحد في كلّ شهر مائة تومان ، و يصير كلّ واحد من العشرة ضامناً لأموال غيره من الشركاء بمقدار العشر لا جميعها ، و يكون هذا من مصاديق ضمان الأعيان التي عند أصحابها ، الذي عرفت أنّه لا مانع منه ، غاية الأمر : إنّه ضمانات عديدة تنشأ بإنشاء واحد ، و لا محذور فيه .

ثانيها : تخريجه على الصلح ، بناءً على ما تقدّم من أنّه عقد برأسه ، و أنّه يصحّ الصلح على كلّ أمر ما لم يكن محلّلاً للحرام و محرّماً للحلال ، فإنّ الشركاء يتصالحون على أن يجعل كلّ واحد منهم مقداراً من المال في صندوق الشركة ، و يتحمّل كلّ واحد منهم الخسارة التي تحلّ بالآخرين بنسبة خاصّة تابعة لمقدار ماله .

ثالثها : اعتباره معاملة مستقلّة ، مشمولة للعمومات بالتقريب المتقدّم (1).

حكم ما تدفعه بعض شركات التأمين من الفوائد الجانبيّة :

بقي في المقام بيان حكم ما تدفعه بعض الشركات من الفوائد السنويّة أو الشهريّة ، إضافة إلى مبلغ التأمين ، الذي تدفعه عند حدوث الخطر .

و قد يقال : إنّه حرام ، فإنّ ما يدفعه المؤمَّن له إلى المؤمِّن ، إن كان تمليكاً له كما هو الظاهر ، فالإضافة فائدة أي شيء ؟ و إن كان بعنوان القرض كان دفع الإضافة موجباً لصيرورة القرض ربويّاً ، فعلى التقديرين لا يحلّ الأخذ .

و لكن يمكن أن يقال : بعد تصحيح معاملة التأمين بأحد الوجوه المتقدّمة : فإنّ للشركة أن تشترط للمؤمَّن له أن تدفع إليه مبلغاً شهريّاً أو سنويّاً ، و هذا شرط

ص:103


1- 1) تقدّم بيانه في الصفحة : 96 .

سائغ لا محذور فيه ، فالإضافة لا تكون فائدة لشيء ، و لا زيادة في القرض ، فتدبّر .

عقد ضمان الجريرة نظير للتأمين :

و يمكن أن يقال : إنّ نظير التأمين عقد ضمان الجريرة ، بل هو من مصاديقه و صورته ؛ لأنّه عبارة عن : أن يقول أحد الشخصين لآخر : عاقدتك على أن تنصرني و أنصرك ، و تمنع عنّي و أمنع عنك ، و تعقل عنّي و أعقل عنك ، و ترثني و أرثك ، فيقول الآخر : قبلتُ ، أو يقول أحدهما : عاقدتك على أن تنصرني ، و تمنع عنّي ، و تعقل عنّي ، و ترثني ، فيقول الآخر : قبلت .

بل الظاهر أنّه لا يعتبر فيه سوى العقل و الإرث ، و له شرائط منها : أن لا يكون له وارث مناسب ، و منها غير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب (1).

و لا خلاف نصّاً و فتوى في مشروعيّة هذا العقد ، و في الجواهر : بل الإجماع بقسميه عليه (2)، و تشهد به نصوص كثيرة .

كخبر عمر بن يزيد ، عن الإمام الصادق (ع) : قال : قلتُ : فإذا أعتق مملوكاً ممّا كان اكتسب سوى الفريضة ، لمن يكون ولاء المعتق ؟ قال : « يذهب فيوالي من أحبّ ، فإن ضمن جريرته و عقله كان مولاه و ورثه » (3).

و خبر عليّ بن رئاب ، عن أبي عبيدة ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل أسلم فتوالى إلى رجل من المسلمين ؟ قال : « إن ضمن عقله و جنايته ورثه و كان

ص:104


1- 1) لاحظ الموسوعة الفقهيّة لسماحة الاُستاذ ( دام ظلّه ) فقه الصادق : 404/24 . [1]
2- 2) جواهر الكلام : 254/39 . [2]
3- 3) الوسائل : كتاب الميراث - الباب 1 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة ، [3] الحديث 1 .

مولاه » (1). و نحوهما غيرهما .

و نتيجة هذا العقد : أنّ من اتّخذ وليّاً يعقله ، و يضمن حدثه ، يكون ولاؤه له ، و يثبت به الميراث .

و الوجه فيما ادّعيناه من أنّه نظير التأمين : أنّه توجد فيه جميع الأركان الموجودة في التأمين ، و هي :

1 - الإيجاب و القبول .

2 - المؤمَّن عليه ( شخص ، أو ثروة ، أو ما شاكلهما ) .

3 - المؤمِّن ، و هو الشركة أو الشخص .

4 - المؤمَّن له .

5 - مبلغ التأمين ، و هو الذي تدفعه الشركة - مثلاً عند حدوث الخطر ، و ما يدفعه المؤمَّن له إلى الشركة من المبلغ .

6 - الخطر المؤمن ضدّه ، كالسرقة .

و له شرائط :

و هي موجودة في هذا العقد أيضاً ؛ لأنّه عقد يعتبر فيه الإيجاب و القبول . و المؤمَّن عليه و هو : المضمون . و المؤمن له و هو : المضمون له في المقام ، و المؤمِّن و هو : الضامن ، و مبلغ التأمين و هو : الدية و الإرث ، و الخطر المؤمن ضدّه و هو هنا : الجناية .

فالمتحصّل من ذلك : أنّ بعض مصاديق التأمين قد دلّ دليل خاصّ على مشروعيّتها .

ص:105


1- 1) الوسائل : كتاب الميراث - الباب 1 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة ، [1] الحديث 5 .

رواية لطيفة :

و قد عثرت على رواية أحببت إدراجها في المقام ؛ لشدّة مناسبتها مع هذا الباب ، و إن كانت لا تدلّ على مشروعيّة التأمين ، و هي : رواية محمّد بن أبي حمزة ، عن رجل بلغ أمير المؤمنين (ع) قال : مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل ، فقال أمير المؤمنين (ع) : « ما هذا ؟ » ، قالوا : يا أمير المؤمنين ، نصراني ، فقال أمير المؤمنين (ع) : « استعملتموه حتّى إذا كبر و عجز منعتموه ، أنفقوا عليه من بيت المال » (1).

فإنّها من جهة اشتمالها على تعريضه (ع) على مَن استعمل شخصاً إلى أن عجز ، ثمّ امتنع عن إنفاقه ، تدلّ على أنّه يحدث له حقّ بواسطة عمله في زمن قدرته ، فيكون ذلك - أي: الإنفاق عليه بعد العجز من الشروط الضمنيّة في أوّل الاستعمال ، و عليه : فمضمونها مربوط بالمقام ، كما لا يخفى .

ص:106


1- 1) الوسائل : [1] كتاب الجهاد ، الباب 19 من أبواب الجهاد ، الحديث 1 .

المسألة الثامنة أوراق اليانصيب

اشارة

و تقرأ فيها :

حقيقة أوراق اليانصيب و أنواعها

حكم إعطاء المال بإزاء القرعة

حكم شراء بطاقة اليانصيب مع اشتراط القرعة و عدمه

حكم إعطاء المال بعنوان الإعانة مع اشتراط القرعة و عدمه

ص:107

ص:108

حقيقة أوراق اليانصيب و أنواعها :

من الموضوعات المستحدثة : أوراق اليانصيب .

و هي عبارة عن : اتّفاق بين شركة من جهة ، و عدّة أشخاص من جهة اخرى ، و بمقتضى هذا الاتّفاق يأخذ كلّ شخص بطاقة ، أو بطاقات اليانصيب بإزاء مبلغ معيّن ، و تتعهّد الشركة بأن تقرع ، فمن أصابت القرعة بطاقته تعطيه مبلغاً معيّناً من المال ، فينبغي لنا بيان موقف الشريعة المقدّسة الإسلاميّة من هذه المعاملة التي شاعت و ذاعت في هذا العصر ، و هي تتصوّر على وجوه ، بل هي أنواع خارجيّة :

النوع الأوّل :

أن يكون إعطاء المال ، و أخذ البطاقة ، لأجل احتمال إصابة القرعة ، و أخذ المال الكثير ، و لا إشكال في حرمة ذلك ، و ما يأخذه من العوض على تقدير إصابة القرعة سحت ؛ لأنّه من مصاديق القمار ، فإنّ من أظهر مصاديقه اللعب ، و العمل بالآلات المعدّة للمراهنة مع الرهن ، و هذه البطاقات معدّة لهذه المراهنة و المغالبة ، فهو حرام ، و العوض المأخوذ سحت .

النوع الثاني :

أن يشتري البطاقة بمبلغ معيّن كتومانين ، و البائع بنفسه يقرع ، فمن أصابته القرعة يعطيه مالاً كثيراً ، كمائة ألف تومان مثلاً ، أو يشترط عليه في ضمن البيع ذلك ،

ص:109

و الأظهر فساد البيع ، و عدم استحقاق المال الكثير بعد إصابة القرعة و فساد الشرط .

أمّا فساد البيع : فلأنّ ماليّة البطاقة المذكورة ليست ذاتيّة ، كالمأكول و ما شاكل ، و لا اعتباريّة بنحو يكون فيه الاعتبار عامّاً يشترك فيه جميع البشر ، كالأحجار الكريمة ، و لا اعتباريّة مجعولة من قِبل دولة أو بنك يقوم مقام القسم الأوّل ، كالأوراق النقديّة ، بل ماليّتها اعتباريّة بالاعتبار الخاصّ ، أي: يكون اعتبارها بالنظر لما يترتّب على البطاقة من الأثر الخاصّ ، و هو أنّ بائعها يقرع ، فإن أصابتها القرعة يعطي لمشتريها مالاً كثيراً ، و عليه فماليّتها مجهولة ، و هذا يعني بأنّ بيعها غرري و باطل .

نعم ، لو أوقع الصلح عليها لم يتوجّه هذا الإشكال .

و أمّا فساد الشرط فلوجهين :

الوجه الأوّل : إنّه مع فساد البيع يكون الشرط ابتدائيّاً ، و الشرط الابتدائي لا يكون صحيحاً ، فإنّ من شرائط صحّته ، و لزوم الوفاء به ، كونه في ضمن عقد من العقود .

الوجه الثاني : إنّ القرعة بنفسها رهان و قمار ، و القمار حرام بالكتاب و السنّة ، و الوجه في كونها قماراً : أنّه لم يؤخذ في مفهوم القمار أن تكون المراهنة بالآلات المعدّة للقمار ، بل اللعب بالآلات غير المعدّة له مع الرهن قمار .

كما تشهد به كلمات اللغويّين ، ففي مجمع البحرين : « أصل القمار : الرهن على اللعب بشيء » (1)، و في القاموس : « تقمره : راهنه فغلبه » (2)، و نحوهما غيرهما .

ص:110


1- 1) مجمع البحرين : 463/3 . [1]
2- 2) القاموس المحيط : 125/2 .

و يشهد به العرف أيضاً ، فإنّا نرى صدق القمار عندهم على اللعب بكلّ شيء مع الرهن ، من دون عناية و علاقة .

و كذلك جملة من النصوص ،

كصحيح معمر بن خلّاد ، عن أبي الحسن (ع) ، قال : « النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة ، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر » (1).

و خبر جابر ، عن الإمام الباقر (ع) إنّه قال : « لما أنزل اللّه تعالى على رسوله (ص) : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (2)قيل : يا رسول اللّه (ص) ، ما الميسر ؟

فقال : كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب و الجوز » (3)، و نحوهما غيرهما .

و يدلّ على فساد القرعة مع هذا الالتزام و التعهّد ، و حرمتها ، و عدم كونها موجبة لحدوث حقّ لمن أصابته ، طوائف اخر من الأخبار .

منها :

خبر ياسر الخادم ، عن الإمام الرضا (ع) ، قال : سألته عن الميسر ؟ قال (ع) : « النعل من كلّ شيء ، قال : و النعل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم » (4).

و منها : ما دلَّ على أنّ الملائكة تنفر عند الرهان ، و تلعن صاحبه ،

كمرسل الصدوق عن الإمام الصادق (ع) : « إنّ الملائكة تنفر عند الرهان ، و تلعن صاحبه

ص:111


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
2- 2) ( )سورة المائدة : الآية 90 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 35 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 104 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 9 . [4]

ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل » (1)، و نحوه خبر العلاء بن سيّابة (2).

و منها : صحيح

محمّد بن قيس ، عن الإمام الباقر (ع) ، قال : قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أكل و أصحاب له شاة ، فقال : إن أكلتموها فهي لكم ، و إن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا » ، فقضى فيه : « إنّ ذلك باطل ، لا شيء في المؤاكلة من الطعام ، ما قلَّ منه و ما كثر ، و منع غرامة فيه » (3).

فالمتحصّل : أنّ الرهان مطلقاً حرام و فاسد لا يوجب الملكيّة ، و منه القرعة المفروضة في المقام ، و عليه : فشرطها شرط مخالف للكتاب و للسنّة ، و هو غير صحيح .

و بما ذكرناه ظهر عدم استحقاق المال بعد إصابة القرعة ، إن لم يشترط ذلك ، مع أنّ القرعة ليست من المملكات .

النوع الثالث :

أن يكون إعطاء المال من طرف آخذ البطاقة ، بعنوان الإعانة و المساعدة لإحدى المؤسّسات الخيريّة ، و البائع يقرع بين المعينين ، فمن أصابته القرعة يعطيه مالاً كثيراً ، تشجيعاً لهم على تقديم المعونات .

و الأظهر أنّه لا إشكال في الإعانة ، و أمّا ما يعطى بعد إصابة القرعة فلا يجوز

ص:112


1- 1) الوسائل : الباب 1 من كتاب السبق و الرماية ، الحديث 6 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 3 من كتاب السبق و الرماية ، الحديث 3 ، و [2]يرويه عن الإمام الصادق (ع) عن رسول اللّه (ص) : « إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش، و ما سوى ذلك فهو قمار حرام » .
3- 3) الوسائل : الباب 5 من أبواب كتاب الجعالة ، الحديث 1 . [3]

أخذه ، أمّا بدون الشرط ، فلأنّه رهان كما تقدّم ، مع أنّ القرعة بنفسها ليست من المملكات ، و أمّا معه ، فلأنّ الشرط لكونه خلاف الكتاب و السنّة لا يكون نافذاً ، مع أنّه شرط ابتدائي ليس في ضمن العقد ، مضافاً إلى أنّ إعطاء المال الكثير من الأموال التي اجتمعت من الإعانات كما ترى ، و لا يعطيه من أمواله يقيناً .

فالأظهر : عدم جواز أخذ ذلك المال الكثير في شيء من أنواعه و وجوهه .

ص:113

ص:114

المسألة التاسعة الشوارع المفتوحة

اشارة

تقرأ فيها :

المقام الأوّل: أحكام الطرق المفتتحة في الأملاك الشخصيّة

الموقف الفقهي من استملاك الدولة للأملاك الشخصيّة

وجوه جواز العبور في الشوارع المستحدثة

بحث حول ( مجهول المالك )

بحث حول ( الملكيّة ) و مراتبها

المقام الثاني : أحكام الطرق المفتتحة في المساجد

بحث حول ( حقيقة المسجدية )

الموقف الفقهي من بيع المساجد

حكم تنجيس المسجد - المفتتح شارعاً و لزوم تطهيره

المقام الثالث: أحكام الطرق المفتتحة في مقابر المسلمين

ص:115

ص:116

من الموضوعات التي شاعت و ذاعت في هذه الأزمنة ، من جهة اختلاف حياة أبناء هذا الزمان مع حياة السابقين ، من ناحية الأسباب و الوسائل : الشوارع المفتوحة من قِبل الدولة ، فينبغي بيان الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بها .

و ينصبّ البحث حول أحكام الدور و المساجد و ما شاكلها ، التي تستملكها الحكومة جبراً ، لتجعلها شوارع لعبور النّاس و مرورهم ، و أنّه هل يجوز ذلك للحكومة أم لا؟

و على التقديرين : يقع البحث حول حكم العبور في مثل هذه الشوارع المستحدثة ، و كذا بقيّة الانتفاعات الممكنة من فضلات الدور و المساجد و ما شاكلها .

و تنقيح القول بالبحث في مقامات :

1 - في الدور و غيرها من الأملاك الشخصيّة .

2 - في المساجد و ما يجري عليها من الأحكام .

3 - في مقابر المسلمين الواقعة في الشوارع ، و ما يتّخذ منها ليجعل دوراً و نحوه .

المقام الأوّل : أحكام الطرق المفتتحة في الأملاك الشخصيّة

اشارة

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه في مواضع :

الأوّل : في حكم استملاك الدولة للأملاك الشخصيّة بشكل جبري ، و بيان

ص:117

كونه من موارد البيع الإجباري الثابت في الشريعة أم لا؟

الوجه الأوّل لجواز الاستملاك :

قد يقال : بجوازه إذا كان عدم افتتاح الشارع ضرراً على المسلمين ، و موجباً لوقوعهم في العسر و الحجر من ناحية الاستطراق ، و لم يرض ملّاكها بالبيع .

و استدلّ لذلك بحديث نفي الضرر و الضرار ، و هو موثّق زرارة ، عن الإمام الباقر (ع) : إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، و كان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمرّ به إلى نخلته و لا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه (ص) فشكا إليه و خبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول اللّه (ص) و خبّره بقول الأنصاري و ما شكا ، و قال : « إذا أردت الدخول فاستأذن » ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيع ، فقال : « لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة » ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول اللّه (ص) للأنصاري : « اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر و لا ضرار » (1). و في بعض النصوص : « ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً » (2).

و تقريب الاستدلال به : أنّه (ص) حكم بجواز قلع العذق بعد أن رفض سمرة الاستئذان ، و المعاملة على عذقه ، و كان بقاء العذق و عدم جواز قلعه ضرراً على الأنصاري ، و علّله بأنّه لا ضرر و لا ضرار ، فيستفاد من ذلك الجواز في كلّ مورد كان عدم الجواز ضررياً على شخص أو أشخاص .

و عليه : ففي المقام إذا كان الشارع ممّا يحتاج إليه النّاس في حياتهم الاجتماعيّة ،

ص:118


1- 1) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 3 . [1]
2- 2) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، الحديث 1 . [2]

و كان عدم فتحه ضرراً عليهم ، و لم يرض المالك بالمعاملة على ماله ، يجوز الافتتاح و إن لم يرض به ؛ لأنّه لا ضرر و لا ضرار .

و أيّد ذلك بخبر أبي بصير ، عن الإمام الباقر (ع) في حديث طويل أنّه قال : « إذا قام القائم (ع) سار إلى الكوفة - إلى أن قال : و وسّع الطريق الأعظم . . . فلا يترك بدعة إلّا أزالها ، و لا سنّة إلّا أقامها » (1).

و الجواب عن الاستدلال :

أوّلاً : إنّه أخصّ من المدّعى ، فإنّه لو تمّ لاختصّ بما إذا كان عدم الافتتاح ضرراً على المسلمين ، و لا يشمل ما إذا كان الافتتاح نفعاً لهم ، و تركه لم يكن ضرراً .

و ثانياً : إنّه لو تمّ هذا الوجه لاختصّ الجواز بالحاكم الشرعي ، و المأذون من قبله ، و من المأسوف عليه أنّ أهل الهوى سلبوا من فقهاء الإسلام الحكم و السلطة ، التي جعلها الإمام المنتظر ( عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ) لهم في زمان غيبته ، فلو ردّت الحكومة إليهم ؛ لعلم النّاس ما هي الحكومة النافعة .

و ثالثاً : إنّه قد بيّنا في رسالة لا ضرر : أنّ الحديث ظاهر في تعلّق النفي بالأحكام الوجوديّة ، و لا يكون العدم شيئاً قابلاً لأن يكون متعلّقاً للنفي إلّا بالعناية ، و إن شئت قلت : إنّ العدم و نفيه لا يكون مجعولاً إلّا بعناية جعل الوجود ، فعدم جواز الافتتاح ليس مشمولاً له (2).

الوجه الثاني لجواز الاستملاك :

و قد يقال في وجه جواز الاستملاك : إنّه لا إشكال و لا ريب في أنّ الشارع

ص:119


1- 1) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 20 ، الحديث 1 . [1]
2- 2) لاحظ : الموسوعة الاُصوليّة ( زبدة الاُصول ) [2] لسماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) : 457/5 .

الأقدس يهتمّ بالاُمور الاجتماعيّة ، و ما يحتاج إليه عامّة النّاس و فيه صلاحهم ، أكثر من اهتمامه بحقوق الأفراد ، و إنّه عند التزاحم يقدّم ما يعود نفعه إلى المجتمع ، و أيضاً من الثابت في الشريعة : أنّ الولاية و الحكومة و إن كانتا للسلطان العادل و نوّابه ، و تصدّي الجائر و تقمّصه بذلك القميص إثم ، إلّا أنّه بعد تصدّيه لذلك المقام يكون له التصرّف في ما يعود نفعه إلى العامّة ، و لذا أفتى بعض الفقهاء بجواز أخذ الحقوق الثابتة في الأموال من قبيل الخراج و المقاسمة و ما شاكل ، و أنّه لو أخذ تبرأ ذمّة من أخذ منه تلك ، و قد دلّت النصوص على ذلك (1).

و على هذا فإذا كان فتح الشارع يعود بالنفع على المجتمع ، فللحكومة استملاك الأملاك الشخصيّة جبراً ؛ إن لم يرض ملّاكها بالمعاملة عليها ، و فتح الطرق منها .

و يرد على هذا الوجه أمران :

الأوّل : إنّه لو تمّ لاختصّ بما إذا كان شقّ الشارع واجباً ، أي: كان نفعه بنحو بلغ إلى حدّ اللزوم ، كي يصلح للمزاحمة مع حرمة التصرّف في ملك الغير بلا رضا صاحبه ، و يقدم عليها ، و إلّا فلا وجه لتقديمه على الحرام الثابت بالعقل و النقل عند المزاحمة .

الثاني : إنّ الغاصب لذلك المقام يرى نفسه حاكماً ، و لا يكون كذلك في اعتبار الشارع الأقدس . و بعبارة اخرى : إنّ غاصب الحكومة لا يكون حاكماً ، إلّا في اعتباره و اعتبار تابعيه ، لا في اعتبار الشارع .

و لذلك بنينا على عدم جواز أخذ الجائر الحقوق الشرعيّة . نعم ، لو عصى و أخذ تبرأ ذمّة من أخذ منه ، للنصوص الدالّة على ذلك (2)، و عليه : ففي المورد الذي يجوز

ص:120


1- 1) لاحظ : الباب 10 من أبواب زكاة الغلات من كتاب وسائل الشيعة .
2- 2) لاحظ : الباب 10 من أبواب زكاة الغلات من كتاب وسائل الشيعة .

فيه الاستملاك القهري بالبيع الإجباري ، إنّما يجوز فيه ذلك لغير الحكومات الجائرة .

وجوه جواز العبور في الشوارع المستحدثة :

الموضع الثاني : في بيان موقف الشريعة المقدّسة من العبور في الشوارع ، التي افتتحت في ملك الغير بلا رضاه .

لا إشكال في الجواز إذا قلنا بجواز الاستملاك ، و إنّما الكلام فيما لو بنينا على عدم الجواز ، و قد ذكرت لجواز العبور عدّة وجوه :

الوجه الأوّل : إنّ الشوارع المستحدثة أموال لا يمكن إيصالها إلى أصحابها ، فيلحقها حكم مجهول المالك ، و هو التصدّق ، و حيث إنّه لا يمكن التصدّق بأعيانها فيتصدّق بمنافعها ، بمعنى : أن يبيح الحاكم الشرعي العبور فيها صدقة عن أصحابها .

و يمكن أن يقال : إنّ الحاكم الشرعي يتصدّق بها للعموم ، و يملكها النوع .

حكم مجهول المالك :

اشارة

و التحقيق : بأنّ هذا الوجه مؤلّف من امور :

الأمر الأوّل : إنّ حكم مجهول المالك هو التصدّق ، و هو تامّ ، و قد حقّقناه في الجزء الثاني من كتابنا منهاج الفقاهة ، و الجزء الخامس عشر من كتابنا فقه الصادق (1). و بيّنا أنّ الروايات تدلّ على ذلك ، و أنّ ما يتوهّم دلالته على خلاف ذلك لا يدلّ عليه ، و في المقام أذكر بعض تلك النصوص ، و اشير إلى الجواب

ص:121


1- 1) فقه الصادق : 137/15 . [1]منهاج الفقاهة : 342/2 . [2]

عمّا توهّم معارضته له .

أمّا نصوص الصدقة :

فمنها : مصحّح يونس ، قال : سئل أبو الحسن الرضا (ع) و أنا حاضر - إلى أن قال : فقال : رفيق كان لنا بمكّة ، فرحل منها إلى منزله ، و رحلنا إلى منازلنا ، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا ، فأي شيء نصنع به ؟ قال (ع) : « تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة » ، قال : لسنا نعرفه ، و لا نعرف بلده ، و لا نعرف كيف نصنع ؟ قال (ع) : « إذا كان كذا فبعه و تصدّق بثمنه » ، قال له : عَلى مَن جعلت فداك ؟ قال : « على أهل الولاية » (1).

و منها : خبر أبي عليّ بن راشد ، عن أبي الحسن (ع) : فيمن اشترى أرضاً ، ثمّ خبر أنّها وقف ، و لا يعرف من وقف له ؟ قال (ع) : « تصدّق بغلتها » (2)، و نحوهما غيرهما .

و أمّا ما توهّم معارضته لها فطوائف :

الطائفة الاُولى : ما استدلّ به لكونه للإمام (ع) ، و هو خبر داود بن أبي يزيد ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال له رجل : إنّي قد أصبت مالاً ، و إنّي خفت فيه على نفسي ، و لو أصبت صاحبه دفعته إليه و تخلّصت منه ؟ فقال (ع) : « و اللّه لو أصبته كنت تدفعه إليه ؟ » ، قال : إي و الله ، قال : « فأنا و اللّه ، ما له صاحب غيري » ، قال : فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره ، قال : فحلف ، فقال : « فاذهب فاقسمه في إخوانك ، و لك الأمن ممّا خفت منه » ، قال : فقسمته بين إخواني (3).

ص:122


1- 1) الوسائل : باب 7 من أبواب اللقطة ، الحديث 2 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 17 من أبواب عقد البيع و شروطه ، الحديث 1 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 7 من أبواب اللقطة ، الحديث 1 . [3]

و فيه : أنّه تحتمل فيه عدّة وجوه :

منها : ما هو أساس الاستدلال ، و هو كون ما أصابه الملتقط لقطة له ، و لكنّه يكون للإمام (ع) .

و منها : كون ما أصابه الملتقط من مال الإمام (ع) فأمره بالصدقة على الإخوان تبرّعاً .

و منها : كون ما أصابه الملتقط لقطة له ، و لكنّ الإمام (ع) عرف أنّه لا وارث له ، فيكون المال له .

و منها : غير ذلك (1)، فلا يصحّ الاستدلال به .

الطائفة الثانية : ما توهّم دلالته على جواز التملّك ، و هي : صحيح عليّ بن مهزيار ، عن أبي جعفر (ع) في حديث : « الغنائم و الفوائد يرحمك اللّه فهي الغنيمة يغنمها المرء ، و الفائدة يفيدها ، و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ، إلى أن قال : و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب » (2).

و فيه :

أوّلاً : إنّه ظاهر في اللقطة ، و قد دلّت النصوص على أنّ لمالكها تملّكها بعد تعريفها حولاً .

و ثانياً : إنّه وارد في مقام بيان وجوب الخمس في كلّ غنيمة ، و من الغنيمة المال الذي يوجد و لا يعرف له صاحب ، فغاية ما يستفاد منه : أنّ مجهول المالك

ص:123


1- 1) راجع : موسوعة فقه الصادق : 435/7 ، و كذلك : مرآة العقول / العلّامة المجلسي (قدس سره) : 111/19 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 5 . [2]

يجوز تملّكه ، و أمّا هل يجوز ذلك مطلقاً أم يختصّ ببعض أقسامه ؟ فلا يستفاد منه شيء منهما .

الطائفة الثالثة : ما استفيد منه أنّ حكم مجهول المالك : تعيّن الحفظ ، و الإيصاء به عند الوفاة .

و هي : خبر الهيثم ، عن العبد الصالح (ع) : فيمن مات في فندق ، و ترك مالاً ، و لا يعرفه صاحب الفندق ، و لا بلاده ، و لا ورثته ؟ « اتركه على حاله » (1).

و خبر هشام بن سالم قال : سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه (ع) و أنا حاضر ، فقال : كان لأبي أجير ، و كان له عنده شيء ، فهلك الأجير ، فلم يدع وارثاً و لا قرابة ، و قد ضقت بذلك كيف أصنع ؟ قال (ع) : « رأيك المساكين رأيك المساكين » ، ثمّ قال (ع) : « هو كسبيل مالك ، فإن جاء طالب أعطيته » (2). و روي هذا الخبر بطرق اخر مع اختلاف في متنه (3).

و لكن يرد على خبر الهيثم أنّه ضعيف ؛ لأنّ الهيثم مهمل مجهول ، مع أنّ الظاهر منه إرادة ما قبل الفحص .

و يرد على الاستدلال بخبر هشام : أنّه ظاهر في موت الأجير ، و عدم وجود وارث له ، فيكون المال له (ع) .

مع أنّ مورده الدين ، و محلّ الكلام هو العين .

ص:124


1- 1) الوسائل : [1] كتاب الإرث ، الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه ، الحديث 4 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب الإرث ، الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه ، الحديث 10 .
3- 3) الوسائل : الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة ، الحديث 7 ، و [3]كذلك : الباب 22 من أبواب كتاب الدين و القرض ، الحديث 3 ، و كذلك : الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى ، الحديث 1 .

هذا مضافاً إلى أنّ قوله : كسبيل مالك ، يحتمل أن يكون المراد به : لزوم الإمساك و الحفظ ، و يحتمل أن يكون المراد : التملّك بالملكيّة المتزلزلة غير المنافية لوجوب الدفع ، إن جاء له طالب .

فالأظهر : أنّ حكم مجهول المالك تعين الصدقة .

و قد أشبعنا الكلام في كتابنا منهاج الفقاهة ، و كتابنا فقه الصادق حول ذلك ، و في أنّه لا يعتبر في التصدّق إذن الحاكم الشرعي ، و في أنّ مصرفه الفقراء ، و في جواز إعطائه للهاشمي ، فليراجع (1).

الأمر الثاني : الذي يتوقّف عليه هذا الوجه : أنّ حكم تعذّر الايصال إلى المالك المعلوم تفصيلاً حكم جهالة المالك ، و هو كذلك كما صرّح به الشيخ الأعظم (2)(ره) تبعاً للمحقّق (ره) (3)؛ إذ المستفاد من النصوص الآمرة بالتصدّق بمجهول المالك : أنّ الواجب لذلك و مناطه هو تعذّر الإيصال إلى المالك ، و عليه : فلا فرق بين أن يكون المالك مجهولاً بقول مطلق ، و بين كونه مردّداً بين أشخاص غير محصورين ، و بين كونه معلوماً يتعذّر الوصول إليه .

الأمر الثالث : إنّه لا فرق في المتعذّر إيصاله إلى صاحبه ، بين أن يكون المال تحت يد الإنسان ، و بين ما لم يكن تحت يده كما في المقام ، فإنّه تحت يد الغاصب الجائر ، و هذا أيضاً غير بعيد للمناط المشار إليه .

الأمر الرابع : إنّه حيث لا يمكن التصدّق بها بأعيانها لشخص معيّن ، فللحاكم أن يتصدّق بمنافعها ، أو التصدّق بها إلى العموم ، و هذا مشكل ؛ إذ لا دليل على

ص:125


1- 1) فقه الصادق : 137/15 ، و [1]منهاج الفقاهة : 345/2 . [2]
2- 2) المكاسب : 193/2 . [3]
3- 3) شرائع الإسلام : 13/2 . [4]

مشروعيّة هذا التصدّق ، مع أنّ التصدّق إن كان على الوجه الأوّل لاختصّ بالفقراء ، فإنّ مصرف الصدقات الفقراء ، لقول اللّه تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ) (1)، و التصدّق على الوجه الثاني بعد عدم فقر النوع لا وجه له ، فالمتحصّل : عدم تماميّة هذا الوجه .

الوجه الثاني : إنّه يجوز شرعاً العبور في الأراضي غير المسوّرة ، التي لم تحجب ليمنع العبور فيها ، من البساتين و غيرها ، و الشاهد به السيرة القطعيّة المستمرّة إلى زمان المعصوم (ع) ، و عليه ففي الشوارع المفتوحة لانطباق هذا العنوان عليها يجوز العبور (2).

و فيه : إنّه لم يدلّ دليل على جواز الاستطراق و العبور في هذه الأراضي ، بهذا العنوان ، و الذي قام الدليل عليه هو جواز ذلك ، فيما لو كان عدم الحجب كاشفاً عن رضا صاحبه ، و علم عدم كونه من القاصرين ، و كذلك في الأراضي المتّسعة التي هي كالأنهار الكبار ، التي يجوز التصرّف فيها مع عدم إحراز رضا صاحبها .

و الجواز في الموردين غير ملازم للجواز في المقام .

أمّا الأوّل فواضح ، و أمّا الثاني : فلأنّه في تلك الأراضي يمكن أن يقال : إنّ الشارع الأقدس جعل حقّاً لغير المالك فيها ، كما في الثمرة الواقعة في عرض الطريق التي يجوز للمارّة أكلها ، فتكون الملكيّة من أوّل حدوثها ملكيّة مقيّدة غير مطلقة ، و هذا لا يجري في المقام ؛ إذ الملكيّة للدور و ما شاكل لم تكن مقيّدة ، فتلك السيرة لا تنفع في المقام .

ص:126


1- 1) سورة التوبة : الآية 60 . [1]
2- 2) مستمسك العروة الوثقى : 202/12 ، و [2]حكي هذا التخريج أيضاً عن الآية العظمى السيّد أبو الحسن الاصفهاني (قدس سره) ، كما جاء في بحوث فقهيّة : 243 . [3]

الوجه الثالث : ما ينسب إلى بعض فقهاء العصر ، و هو : أنّ الأرض إذا كسيت بالإسمنت أو القير أو ما شاكل ، فما يوضع عليه القدم في أثناء العبور ليس هو نفس الأرض ، بل توضع القدم على التبليط ، و الفضاء لا مانع من العبور فيه ، و لذا لا كلام في جواز رمي الحجارة من أحد جانبي ملك الغير إلى الآخر ، و في جواز عبور الطائرات في الفضاء المملوك للنّاس (1).

و فيه :

أوّلاً : إنّ أحجار التبليط بما أنّها معتمدة على الأرض ، فالقدم و إن كان يوضع عليها إلّا أنّه يعدّ ذلك تصرّفاً في الأرض أيضاً .

و ثانياً : إنّ رمي الحجارة يجوز من جهة أنّ العرف لا يرونه تصرّفاً لحقارته و قلّته ، و أمّا عبور الطائرة ، فلعلّ وجه جوازه : أنّ الفضاء التي تعبر فيه الطائرة لا يكون مملوكاً .

و توضيح ذلك : أنّ ما اشتهر من أنّ كلّ مَن ملك أرضاً ملك لفراغها إلى عنان السماء ، و لقرارها إلى تخوم الأرضين ، لا أصل له ؛ لعدم الدليل عليه ، مع أنّ اعتبار هذه الملكيّة لا يكون عقلائيّاً و لا شرعيّاً .

بل الحقّ : أنّ من ملك أرضاً يملك مقداراً من الفضاء الذي تتوقّف عليه تصرّفاته في أرضه ، و لمقدار من الأرض يكون بمنزلة الحريم لها ، و لا يملك ما تجاوز عن ذلك . و إنّما تملكه الحكومة بعنوان أنّه حريم للدولة ، و لذا للحكومة المنع من عبور الطائرات عبر فضاء الدولة ، و إن لم يكن ذلك لمالك كلّ قطعة منها ، و على هذا

ص:127


1- 1) نسبة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) بصورة جازمة إلى الفقيه الأكبر السيّد الحكيم (قدس سره) ، و لم أعثر عليه في كلماته ، رغم التتبّع الكثير .

فتصرّف العابر في فضاء الدار يكون حراماً ، و لا يقاس بالتصرّف في المثالين .

الوجه الرابع : إنّ أصحاب تلك الأموال بعد فتح الشارع ، يعرضون عن أموالهم ، لعلمهم بعدم رجوعها إليهم ، و الإعراض مخرج للملك ، و موجب لانسلاخ الملكيّة عن المالك .

و الجواب : إنّ هذا الوجه فاسد من ناحيتين :

الاُولى : أنّ اليأس غير الإعراض ، و الثابت هو يأس أصحاب تلك الأموال عن وصول أموالهم إليهم ، و أمّا الإعراض عنها فلا يكون ثابتاً .

الثانية : إنّ الإعراض لا يكون موجباً لخروج المال عن ملك صاحبه ؛ إذ لا دليل على أنّه - في مقابل العناوين الخاصّة المخرجة للملك عن ملك صاحبه من البيع و الهبة و غيرهما يوجب الخروج سوى النبوي المعروف : « النّاس مسلّطون على أموالهم » (1).

بدعوى : أنّه يدلّ على أنّ النّاس مسلّطون على التصرّف في أموالهم بأنحاء التصرّفات ، حتّى التصرّفات المخرجة ، كالبيع ، و منها : الإعراض .

و يتوجّه عليه : إنّه يدلّ على أنّ كلّ أحد مسلّط على التصرّف في أمواله ، فمدلوله ثبوت السلطنة في موضوع المال ، و لو كان ذلك التصرّف موجباً لخروج المال عن ملكه ، كالبيع ، فإنّ البائع يتصرّف في ماله بإعطائه للغير ، و لازمه السلطنة عن نفسه ، و لا يدلّ على السلطنة على إذهاب الموضوع و إزالة السلطان .

و بعبارة أوضح : إنّه يدلّ على ثبوت السلطنة في ظرف ثبوت الموضوع ،

ص:128


1- 1) عوالي اللئالي : 222/1 ، الحديث 99 . [1]

و لا يكون متعرّضاً لحكم السلطنة على إعدام الموضوع ، فلا يدلّ على أنّ الإعراض موجب لانسلاخ الملكيّة و لو صرّح بذلك ، فضلاً عمّا لو لم يصرّح بذلك كما في المقام .

الوجه الخامس : إنّه من مجوّزات التصرّف في ملك الغير رضاؤه بذلك ، و لو لم ينشئه بالصراحة ، و لكن انكشف بشاهد الحال ، حتّى أنّ القوم صرّحوا بأنّه يكفي في تحقّق الرضا المبيح للتصرّف ، وجوده شأناً ، بأن يكون المالك بالقوّة راضياً بذلك التصرّف ، و إن صدر من غير اطّلاعه ، أو في حال نومه ، أو نحو ذلك ممّا يمتنع أن يتحقّق معه الرضا الفعلي .

و عليه : فيمكن استكشاف رضا أصحاب الأموال بتصرّف العابرين ، من أنّهم بعد ما رأوا ابتلاء النّاس بالعبور على أملاكهم ، و عدم عود الأملاك إليهم لا محالة يكونون راضين بهذا التصرّف ، غاية الأمر قد يكون الرضا فعليّاً و قد يكون شأنياً .

و يتوجّه على هذا الوجه :

أوّلاً : إنّ ذلك لا يصحّح العبور في الشوارع ، من ناحية أنّه ربّما يكون في البين صغير أو مجنون ، و الرضا من قبل هؤلاء لا يكفي .

و ثانياً : إنّه لا يحصل العلم في جميع الموارد ، كما لا يخفى .

الوجه السادس : ما نسب إلى بعض الأعاظم من الماضين (1)، و هو : أنّه بعد افتتاح الشارع لا ريب في أنّ مصلحة المجتمع تقتضي العبور منه ، و يتوقّف عليه حفظ النظام ، و عليه : فللحاكم الشرعي الذي له الولاية في هذه الاُمور أن يجيز العبور فيه ، بأن يتولّى الحاكم نظراً إلى تلك المصلحة إجارة الأرض عن أصحابها

ص:129


1- 1) نسبه السيّد بحر العلوم (قدس سره) في كتابه بحوث فقهيّة : 246 - [1] بواسطة استاذه المحقّق الشيخ حسين الحلّي (قدس سره) إلى الميرزا الشيخ محمّد تقي الشيرازي (قدس سره) .

لأجل العبور ، و عوضها شيء قليل من المال ، و يصرف ذلك المال في سبيل اللّه عن أصحاب الأرض ، و إن شاء المستطرق أن يتصدّق لمرّة واحدة عن أصحاب تلك الأرض مع إجازة الحاكم لا بأس به .

و يتوجّه عليه :

أوّلاً : إنّ عدم العبور في كلّ شارع افتتح لا يلزم منه اختلال النظام ، و لا دليل على ولاية الحاكم على كلّ ما تقتضيه مصلحة العامّة ، حتّى مثل هذه الاُمور ، غير البالغة حدّ اللزوم .

و ثانياً : إنّه بعد الإجارة إن صحّت لا بدّ من دفع المال إلى أصحاب الأرض ، لا الصدقة عنهم .

نعم ، مع عدم معلوميّتهم يتصدّق عنهم .

الوجه السابع : إنّ الأرض التي وقعت في الشارع ، إمّا أن تكون من الأراضي المفتوحة عنوة ، و هي الأرض التي فتحت بالخيل و الركاب قهراً ، و رفعت يد الكفّار عنها بغلبة المسلمين ، و إمّا أن تكون من غيرها .

فإن كانت منها فهي ملك للمسلمين ، و لا تدخل في ملك من عمّرها ، كي يكون العبور تصرّفاً في ملك الغير .

و إن كانت من غيرها ، فبما أنّ الحكومة تهدم أوّلاً عمارة الأرض ، و تجعلها خربة و ميتة ، ثمّ تجعلها شوارع لعبور النّاس و مرورهم ، فهي تخرج عن ملك مالكها بذلك ؛ لأنّ الأرض المعمورة - و إن كانت العمارة عن معمِّر إن صارت ميتة و خربة تخرج عن ملك المعمِّر و المحيي ، كما عن العلّامة في التذكرة (1)، و الشهيد في

ص:130


1- 1) تذكرة الفقهاء ( الطبعة الحجريّة ) : 400/2 .

المسالك (1)، و بعد ما تجعلها شوارع إمّا أن تصير ملكاً للحكومة المحيية لها ، أو تبقى بلا مالك ، و على التقديرين يجوز التصرّف فيها .

و فيه : إنّ الأرض المفتوحة عنوة إنّما تكون ملكاً للمسلمين مع اجتماع شرائطها ، ككونها محياة حال الفتح ، و عدم كونها من الأراضي التي ابقيت في يد أهل الذمّة ، و عدم كونها من خمسها ؛ إذ الموات حال الفتح ملك للإمام ، و يملكها من أحياها ، و الأرض التي ابقيت في يد أهل الذمّة ملك لأربابها و عليهم الجزية ، و بمقدار الخمس يملكها المستحقّ له ، و على هذا فإن ثبت كون الأرض من المفتوحة عنوة بهذه الشرائط كانت ملكاً للمسلمين ، و إلّا فمقتضى قاعدة اليد كونها ملكاً لأصحابها .

و أمّا غير تلك الأرض : و هي الأرض الميّتة بعد العمارة ، فلا بدّ أوّلاً من بيان حكمها إجمالاً ، ثمّ تطبيقه على المقام .

و محصّل القول فيها : إنّ الأرض التي يعرض لها الموت بعد العمارة ، إمّا أن تكون عمارتها السابقة عمارة سماويّة ، أو تكون من معمّر .

فإن كانت العمارة سماويّة ، فهي للإمام ، سواء كانت العمارة أصليّة أو عرضيّة ، أمّا إذا كانت عرضيّة ، فلأنّ الأرض المفروضة كانت مواتاً في الأصل و ملكاً للإمام (ع) بلا خلاف فيه نصّاً و فتوى ، و هي باقية على ما هي عليه .

و أمّا إن كانت العمارة أصليّة ، فلما دلّ على أنّ الأرض الميتة للإمام ، الشامل لما إذا كانت العمارة بالأصالة و بالعرض ، كخبر داود بن فرقد ، عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث ، قال : قلتُ : و ما الأنفال ؟ قال : « بطون الأودية ، و رءوس الجبال ، و الآجام ، و المعادن ، و كلّ أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب ، و كلّ أرض

ص:131


1- 1) مسالك الأفهام : 391/12 .

ميتة قد جلا أهلها ، و قطائع الملوك » (1)، و نحوه غيره .

و لما دلَّ من النصوص الكثيرة على أنّ الأرض الخربة ، أو الخربة التي لا ربّ لها للإمام (ع) ، فلاحظ : خبر محمّد بن مسلم ، عن الإمام الصادق (ع) : « أنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة فيها ، أو قوم صولحوا بأيديهم ، و ما كان من أرض خربة ، أو بطون أودية ، فهذا كلّه من الفيء ، و الأنفال للّه و للرسول ، فما كان للّه فهو للرسول يضعه حيث يحبّ » (2).

و معتبر حفص بن البختري ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب ، أو قوم صولحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، و كلّ أرض خربة ، و بطون الأودية ، فهو لرسول اللّه (ص) و هو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء » (3).

و ما دلّ من النصوص على أنّ القرية التي خربت وجلا أهلها له (ع) ، كخبر عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : سألته عن الأنفال ؟ فقال : « هي القرى التي قد جلى أهلها ، و هلكوا فخربت ، فهي للّه و للرسول » (4). و نحوه غيره .

و إن كانت العمارة من معمِّر ، فالكلام فيها في مقامين :

1 - المقام الأوّل: في بيان أنّ الأرض بالموت هل تخرج عن ملك المعمِّر ، كما عن العلّامة في التذكرة (5)، و الشهيد في المسالك (6)؟ أم لا تخرج كما هو

ص:132


1- 1) الوسائل : [1]كتاب الخمس ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحديث 32 . [2]
2- 2) الوسائل : [3]كتاب الخمس ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحديث 10 . [4]
3- 3) الوسائل : [5]كتاب الخمس ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحديث 1 . [6]
4- 4) الوسائل : [7]كتاب الخمس ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحديث 24 . [8]
5- 5) تذكرة الفقهاء ( الطبعة الحجريّة ) : 401/2 .
6- 6) مسالك الأفهام : 400/12 .

المشهور بين الأصحاب (1)؟

2 - المقام الثاني : في بيان أنّ الأرض على فرض عدم خروجها بالموت عن ملك المعمّر ، هل يملكها لو عمّرها آخر كما عن جمع ، بل عن جامع المقاصد (2): إنّه المشهور بين الأصحاب ؟ أم لا يملكها كما عن جماعة من القدماء و المتأخّرين (3)؟ أم يفصل بين ما إذا كان الخراب مستنداً إلى إهمال المالك و ترك المزاولة لها ، و بين ما إذا لم يكن مستنداً إلى ذلك ، فيملكها على الأوّل دون الثاني (4)؟

أمّا المقام الأوّل : فقد استدلّ لخروجها عن ملكه بوجوه :

الأوّل : إنّ الأرض أصلها مباح ، فإذا تركها الأوّل حتّى عادت إلى ما كانت عليه صارت مباحة .

الثاني : إنّ السبب في صيرورتها ملكاً له هو الإحياء ، فإذا زال السبب زال المسبّب .

الثالث : إطلاق ما دلّ على أنّ الأرض الميتة و الخربة للإمام (ع) .

و في الجميع نظر :

ص:133


1- 1) منهم : الشيخ الطوسي (قدس سره) في النهاية : 420 ، و العلّامة الحلّي (قدس سره) في تحرير الأحكام : 482/4 . المحقّق الحلّي (قدس سره) في شرائع الإسلام 323/1 . و [1]الشهيد الأوّل (قدس سره) في الدروس : 56/3 ، و غيرهم في غيرها .
2- 2) جامع المقاصد : 17/7 .
3- 3) ذهب إليه الشيخ الطوسي (قدس سره) في النهاية : 420 ، و ابن إدريس (قدس سره)في السرائر : 375/2 .
4- 4) منهم : الشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط : 269/3 ، و [2]المحقّق الحلّي (قدس سره) في شرائع الإسلام : 323/1 ، و الشهيد الأوّل (قدس سره) في الدروس : 57/3 ، و المحقّق الكركي (قدس سره) في جامع المقاصد : 18/7 .

أمّا الأوّل : فلأنّ كون أصلها مباحاً لا يوجب صيرورتها مباحة ، بعد ما دخلت في ملك المحيي ، و خروجها عن ملكه ، مع أنّ الدليل دلَّ على أنّ خروج الملك لا بدّ و أن يكون عن سبب .

و أمّا الثاني : فلأنّ المستفاد من الأدلّة كون ذات الأرض مملوكة بسبب الإحياء ، و أنّه كسائر الأسباب المملّكة يكون سبباً لحدوث الملكيّة ، لا أنّ الأرض المعنونة بعنوان المحياة مملوكة ، و لا أنّه سبب للملكيّة حدوثاً و بقاءً .

و أمّا الثالث : فلأنّه يتعيّن تقييد إطلاق تلك النصوص بما في النصوص الاُخر ، من التقييد بالأرض الميتة التي لا ربّ لها ، كمرسل حمّاد (1).

و يشهد لبقائها على ملك مالكها الاستصحاب ، مضافاً إلى أنّ المستفاد من الأدلّة : أنّ زوال الملك لا بدّ و أن يكون بناقل .

و اورد عليه : تارة بالشكّ في بقاء الموضوع ، فإنّ موضوع الملكيّة إن كان هو ذات الأرض فهو باقٍ قطعاً ، و إن كان هو عنوان المحياة فهو مرتفع قطعاً .

و اخرى : بأنّ الشكّ في المقام من قبيل الشكّ في المقتضي ، للشكّ في أنّ الإحياء هل هو سبب للملكيّة حتّى بعد عروض الموت أم لا؟

و يمكن دفع الأوّل بما تقدّم من ظهور الأدلّة في أنّ الموضوع هو ذات الأرض ، و أنّ الإحياء بمنزلة الشرط في القضيّة .

و يمكن دفع الثاني بأنّ المختار حجّية الاستصحاب مطلقاً ، حتّى في موارد الشكّ في المقتضي .

ص:134


1- 1) الوسائل : الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحديث 4 ، [1] عن العبد الصالح (ع) : « و له رءوس الجبال، و بطون الأودية و الآجام، و كلّ أرض ميتة لا ربّ لها » .

مع أنّ هذا ليس من الشكّ في المقتضي الذي بنى الشيخ الأعظم (ره) على عدم حجّية الاستصحاب فيه (1)، فإنّ مورده ما لو شكّ في اقتضاء المستصحب للبقاء في عمود الزمان ، و تمام الكلام في محلّه (2).

فالأظهر : عدم خروجها عن ملك المعمِّر الأوّل .

و أمّا المقام الثاني : فمقتضى ما دلَّ من العقل و النقل على عدم جواز التصرّف في مال الغير بلا رضا صاحبه ، عدم جواز الإحياء في المقام ، و القياس بالالتقاط - بعد ورود النصّ الخاصّ فيه مع الفارق .

و أمّا ما دلّ من النصوص على أنّ من أحيا أرضاً ميتة فهي له ، كصحيح الفضلاء عن الإمامين الباقر و الصادق (ع) ، قالا : قال رسول اللّه (ص) : « مَن أحيا أرضاً مواتاً فهي له » (3). و نحوه غيره ، فهو ظاهر في الأرض التي لا ربّ لها .

و لكن وردت في المقام طوائف من النصوص الخاصّة ، منها :

1 - ما دلّ على البقاء على ملك المعمِّر الأوّل ، كصحيح سليمان بن خالد ، عن الإمام الصادق (ع) : عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ، و يجري أنهارها ، و يعمّرها ، و يزرعها ، ما ذا عليه ؟ قال (ع) : « الصدقة » ، قلت : فإن كان يعرف صاحبها ؟ قال (ع) : « فليؤدِّ إليه حقّه » (4)، و نحوه غيره .

2 - ما دلّ على صيرورتها ملكاً للمحيي الثاني من دون شيء عليه ، كصحيح

ص:135


1- 1) فرائد الاُصول : 46/3 . [1]
2- 2) زبدة الاُصول : 377/5 . [2]
3- 3) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 1 ، الحديث 5 . [3]
4- 4) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 3 ، الحديث 3 . [4]

معاوية بن وهب ، عن الإمام الصادق (ع) : « أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها ، و كرى أنهارها ، و عمّرها ، فإنّ عليه فيها الصدقة ، فإن كانت أرضاً لرجل قبله ، فغاب عنها و تركها ، فأخرجها ، ثمّ جاء بعد يطلبها ، فإنّ الأرض للّه و لمن عمّرها » (1)، فإنّ ظاهره أنّ الأرض لمن يقوم بعمارتها ، لا لمن تركها فأخربها .

3 - ما دلّ على أحقّية الثاني بها ، و وجوب الخراج عليه ، كصحيح الكابلي ، عن الإمام الباقر (ع) في حديث : « فإن تركها و أخربها ، فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمّرها و أحياها ، فهو أحقّ بها من الذي تركها ، فليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي ، و له ما أكل منها حتّى يظهر القائم (ع) من أهل بيتي بالسيف » (2).

و هذه الطائفة يتعيّن طرحها ؛ لإعراض الأصحاب عنها ، و عدم كون الأرض المفروضة فيها من الأراضي الخراجية ، و لغير ذلك ممّا لا يخفى .

و أمّا الأوّلان : فحيث إنّ الثانية مختصّة بصورة الإهمال ، فتخصّص الاُولى بها ، فتكون النتيجة هي : التفصيل بين صورة الإهمال و غيرها ، و بذلك يكون القول بالتفصيل أقوى .

و يؤيّده : ما ورد في الأرض التي أسلم أهلها طوعاً ، فإنّ الأرض و إن كانت ملكاً لهم إلّا أنّهم إذا أهملوها حتّى خربت ، كان لوليّ المسلمين أن يقبلها من غيرهم ، ليقوم بعمارتها و يأخذ وجه الإجارة ، و يدفع بمقدار حقّ الأرض إلى مالكها ،

ص:136


1- 1) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 3 ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : كتاب إحياء الموات ، الباب 3 ، الحديث 2 . [2]

و يصرف الباقي في الاُمور العامّة .

اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّ ما دلّ على أنّ « من أحيا أرضاً ميتة فهي له » ، إنّما يدلّ بإطلاقه على أنّ كلّ أرض ميتة تملك بالإحياء ، و لا يكون مختصّاً بالأرض التي لا ربّ لها ، و عليه : فإذا هدمت الحكومة أرضاً و صارت ميتة تملك بالإحياء .

أو يقال : إنّ ما دلّ على أنّ الأرض الميتة أو الخربة للإمام (ع) يدلّ على صيرورة الأرض بالخراب ملكاً للإمام ، و خروجها عن ملك مالكها ، فيرجع إلى ما تضمّن إذنهم (ع) لشيعتهم في التصرّف فيها ، و تملّكها بالإحياء ، و ما تضمّن التقييد بالأرض الميتة التي لا ربَّ لها لا مفهوم له كي يقيّد إطلاق هذه النصوص ، و المسألة تحتاج إلى بسط في الكلام لا يسعه المجال ، و قد أشبعنا الكلام حولها في الجزء الثاني من كتابنا : منهاج الفقاهة (1)، و الجزء الخامس عشر من كتابنا : فقه الصادق (2).

هذا حكم الأرض الميتة بعد العمارة .

و أمّا تطبيقه على المقام فالظاهر عدم الانطباق ؛ لأنّ الظاهر من النصوص الاختصاص بما إذا خربت الأرض و صارت ميتة ، و لا تشمل ما لو أخربها ظالم و صيّرها ميتة كما لا يخفى .

الوجه الثامن : إنّه إذا هدمت الحكومة الدور و ما شاكل ، و جعلتها شوارع ، تخرج تلك الأراضي عن ملك أصحابها ؛ لأنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة ، و الاعتبار بما أنّه من الأفعال ، فلا بدّ و أن يترتّب عليه أثر ، و إلّا يكون لغواً ، و صدوره من الحكيم محال ، و الأرض التي جعلت شارعاً ، و يعلم عدم رجوعها إلى

ص:137


1- 1) منهاج الفقاهة : 424/2 . [1]
2- 2) فقه الصادق : 96/15 . [2]

صاحبها ، بما أنّه لا يترتّب على اعتبار ملكيّتها لمالكها أثر خارجي ، يكون اعتبارها لغواً لا يصدر من الحكيم ، فلا محالة تخرج عن ملكيّته بذلك ، و لتوضيح ذلك لا بدّ من ذكر مقدّمة ، و هي : أنّ للملكيّة أربع مراتب :

مراتب الملكيّة :

1 - الملكيّة الحقيقيّة

، و هي عبارة عن : السلطنة التامّة ، بنحو يكون زمام أمر المملوك بيد المالك حدوثاً و بقاءً ، و هي مخصوصة باللّه تعالى .

2 - الملكيّة الذاتيّة

، و المراد بالذاتي ما لا يحتاج تحقّقه إلى أمر خارجي ، لا الذاتي في باب البرهان ، و لا الذاتي في باب الكلّيات الخمس ، و هي عبارة عن : الإضافة الحاصلة بين الشخص و نفسه و عمله و ذمّته ؛ إذ الإنسان مالك لعمله و لنفسه و لذمّته بالملكيّة الذاتيّة ، و الشاهد به الضرورة و الوجدان و السيرة العقلائيّة ، و هذه المرتبة دون مرتبة الواجديّة الحقيقيّة المختصّة باللّه تعالى .

3 - الملكيّة المقوليّة

، و هي عبارة عن : الهيئة الحاصلة من إحاطة جسم بجسم آخر ، كالهيئة الحاصلة من التعمّم و التقمّص و ما شاكل .

4 - الملكيّة الاعتباريّة

، و هي : التي يعتبرها العقلاء أو الشارع لشخص خاصّ من جهة المصلحة الداعية إلى ذلك ، و هذه المرتبة بما أنّ قوامها بالاعتبار و موجودة به ، و هو من الأفعال ، و كلّ فعل ترتّب عليه أثر يصدر من العاقل و الحكيم ، و إلّا فهو لغو لا يصدر منه ، فإذا فرضنا أنّ اعتبار ملكيّة شيء لشخص خاصّ لا يترتّب عليه أثر ، كملكيّة الخاتم الملقى في البحر المعلوم عدم إمكان وصوله إلى صاحبه ، فلا يعتبرها العقلاء و لا الشارع .

و إذا تمّ هذا التمهيد فأقول : في المقام بعد فتح الشارع ، بما أنّ صاحب الأرض

ص:138

لا يتمكّن من الانتفاع بماله ، و لا يرجو عوده إليه لينتفع به ، فلا محالة تخرج الأرض بذلك عن ملكه ؛ لأنّ اعتبار ملكيّتها لغو حينئذٍ ، فيجوز العبور فيها لعدم كونها ملكاً للغير .

حكم بقيّة الانتفاعات الممكنة :

الموضع الثالث : بيان حكم الشريعة في بقيّة الانتفاعات الممكنة من فضلات الدور و ما شاكلها ، بجعلها دكّاناً - مثلاً و الانتفاع به ، و الأظهر أنّها لمالكها ، و تلك الفضلات لا تخرج بفتح الشارع عن ملكه ، لإمكان الانتفاع بها مع ما هي عليه ، حتّى و إن فرضنا اغتصاب الحكومة إيّاها ، فإنّها حينئذٍ قابلة لأن ينتفع بها ، و لو بأن يدفع مبلغاً للحكومة بإزائها ، فتدبّر .

المقام الثاني : أحكام الطرق المفتتحة من المساجد

اشارة

و أمّا المقام الثاني ، و هو البحث عن المساجد الواقعة في الشوارع ، فالكلام فيه في مواضع :

1 - الموضع الأوّل : في بيان عنوان المسجديّة هل يزول شرعاً بزواله عرفاً أم لا؟

2 - الموضع الثاني : في بيان حكم العبور في المساجد الواقعة في الشوارع .

3 - الموضع الثالث : في بيان حكم الانتفاعات الاُخر الممكنة من فضلات المسجد .

4 - الموضع الرابع : في بيان حرمة تنجيسه ، و وجوب إزالة النجاسة و عدمه .

ص:139

حقيقة المسجديّة :

أمّا الموضع الأوّل : فالأظهر عدم زوال عنوان المسجديّة شرعاً بزواله عرفاً ، ففي وقف المساجد لا ينقل الواقف المال إلى اللّه تعالى ، و لا إلى المسلمين ، و لا المصلّين ، و لا يكون من قبيل فكّ الملك خاصّة ، بل المسجديّة من العناوين الاعتباريّة العقلائيّة الممضاة شرعاً ، و مورد الاعتبار نفس الأرض ، و هي التي تتشرّف بكونها متحيّثة بحيثيّة كونها بيت اللّه ، و هذا العنوان غير قابل للزوال ، و قد رتّب عليه في الشرع أحكام ، من جواز الصلاة فيه ، و حرمة تنجيسه ، و ما شابه ذلك ، فالأرض التي جعلت مسجداً تكون مسجداً إلى الأبد ، و هذا العنوان لا يعقل انفكاكه عنها ، فما أفاده السيّد الطباطبائي (ره) في ملحقات العروة : بأنّه لا دليل على أنّ المسجد لا يخرج عن المسجديّة أبداً ، غير تامّ (1).

حكم العبور في المساجد الواقعة في الشارع :

و أمّا الموضع الثاني : فالحقّ جواز العبور فيها ، فإنّ الاستطراق في المسجد جائز ، و تخريب الغاصب الظالم إيّاه ، و منع النّاس من الصلاة فيه لا يوجب تبديل جواز الاستطراق بعدمه .

و دعوى : أنّه كما يحرم الغصب ، كذلك يحرم على غير الغاصب الجري على وفقه ، و العمل بمقتضى الغصب ، و في المقام يكون العبور و الاستطراق في الشارع المفتوح جرياً على وفق الغصب ، فإنّه غُصبَ ليجعل شارعاً يعبّر فيه النّاس ، فيكون حراماً .

مندفعة : بأنّ الجري على الغصب بهذا العنوان لم يدلّ دليل على حرمته ،

ص:140


1- 1) ملحقات العروة الوثقى : 368/6 ، المسألة رقم 27 من لواحق باب الوقف .

و إنّما يكون حراماً لو انطبق عليه عنوان محرم ، فمثلاً : لو غصب زيد دار شخص ، يحرم الجري على وفقه بالاستئجار منه ؛ لأنّه بنفسه حرام ، و تصرّف في مال الغير بلا رضا صاحبه ، و في المقام بما أنّ العبور في المسجد جائز في نفسه ، فكونه جرياً على وفق الغصب لا يوجب تعنونه بعنوان محرم ، فيجوز .

حكم بيع المسجد :

أمّا الموضع الثالث ، فالكلام فيه في موردين :

المورد الأوّل : إذا هدمت الحكومة مسجداً ، و جعلته شارعاً ، و بقي من فضلاته بمقدار لا ينتفع به في الصلاة و العبادة ، و لكن يمكن جعله محلّاً للكسب ، فهل يجوز بيعه للحاكم الشرعي كما هو الشأن في الأوقاف الاُخر ، حيث إنّها إذا خربت بنحو لا ينتفع بها يجوز بيعها أم لا؟

و الأظهر هو الثاني ؛ فإنّ جواز بيع تلك الموقوفات ، إنّما يكون لأجل أنّ حقيقة الوقف عبارة عن : تحبيس العين و تسبيل المنفعة ، فالواقف بحسب ارتكازه حينما يوقف ما لا ينتفع بشخصه إلى الأبد ، يكون قاصداً لأن تكون العين الموقوفة محبوسة بشخصها ما دام إلى الانتفاع بها سبيل ، و بما لها من الماليّة إذا لم يمكن الانتفاع بها مع بقائها بشخصها ، و عليه : فإذا سقطت العين الموقوفة عن قابليّة الانتفاع كان لازم قوله (ع) : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها للّه تعالى » (1)، تبديلها بما يماثلها في الماليّة ؛ لأنّ ذلك في نظر العقلاء من أنحاء حفظ المال بما هو مال .

و بالجملة : تسليط الموقوف عليهم على الانتفاع إلى الأبد يوجب التوسعة

ص:141


1- 1) الوسائل : الباب 2 من أبواب الوقوف و الصدقات ، الحديث 1 . [1]

في الموقوف ، و يكون حبسه بالنحو الذي ذكرناه ، فالتبديل ليس إزالة للحبس ، بل هو حفظ للمال بما هو مال عند العقلاء ، الذي هو غرض الواقف .

و هذا لا يجري في في المسجد ؛ لما عرفت من أنّ للمسجد مع قطع النظر عن كونه من الأوقاف العامّة ، و يجوز انتفاع المسلمين به في الصلاة و غيرها ، حيثيّة اخرى ، و هي : حيثيّة المسجديّة ، و لها أحكام خاصّة ، و تلك الحيثيّة قائمة بشخص هذه الأرض لا بما لها من الماليّة ، و هذه الحيثيّة تمنع عن بيعه .

نعم ، يصحّ إجارته ؛ لأنّ الحيثيّة المشار إليها لا تنافيها ، كما لا تنافي إجارته كونه من الأوقاف العامّة أيضاً ، لفرض كون المورد من موارد الجواز ، فلا محذور فيها .

اللّهمّ إلّا أن يقال : إنّه في الفرض لكلّ أحد الانتفاع به ، و ليس شخص خاصّ مالكاً للمنفعة أو الانتفاع ، فلا تجوز الإجارة من هذه الجهة .

فما أفاده كاشف الغطاء (ره) من أنّه لا يصحّ بيع المسجد ، و مع اليأس عن الانتفاع به في الجهة المقصودة يؤجّر للزراعة و نحوها (1)، غير تامّ .

و لو قلنا بصحّة الإجارة ، يُصرف مال الإجارة في مسجد آخر ، و إن لم يوجد صُرف في سائر مصالح المسلمين .

حكم الانتفاع بفضلات المسجد مع إمكان الانتفاع بها في الصلاة :

المورد الثاني : إذا أمكن الانتفاع بما بقي من فضلات المسجد في الصلاة و العبادة ، فلا إشكال في عدم جواز جعله محلّاً للكسب أو السكنى ، أو جعله داراً و ما شاكل ؛ لأنّ ذلك كلّه يخلّ بالأغراض المعدّ لها ، إنّما الكلام في أنّه إذا جعله

ص:142


1- 1) شرح القواعد : 221/2 . [1]

الظالم كذلك ، كما لو جعله دكّاناً لا يمكن للإنسان أن ينتفع به بغير الكسب ، و ليس في وسعه تغييره ، و مورد الكلام فيه أمران :

1 - المورد الأوّل : في جواز الانتفاع به في هذه الصورة .

2 - المورد الثاني : في لزوم الضمان و عدمه .

أمّا الأوّل : فالظاهر جوازه ؛ لأنّه يجوز للنّاس النوم في المساجد و المدارس و ما شاكل ، و التردّد فيها ، و الأخذ من مائها ، و الاكتساب فيها بأعمال الدنيا و الآخرة ، من غير اختصاص بالمصلّين ، كما يصنع في المباحات ، إلّا أنّ الغرض المعدّ له مقدّم على غيره ، فلو أخلَّ المكتسبون بالأغراض المعدّ لها حرم ، و إلّا فهو جائز ، فإذا فرضنا أنّ المخلّ بها عمل الغاصب دون المكتسب ، فالاكتساب يكون جائزاً ، و الوجه في جوازه حينئذٍ : عدم الدليل على الحرمة .

و أمّا الثاني : فظاهر كلمات جمع من الأساطين (1)عدم الضمان ، و استدلّ له بوجهين :

أحدهما : إنّ الظاهر من الحديث (2): التأدية و الإيصال إلى المالك ، فيختصّ بأملاك النّاس .

و فيه : إنّ الظاهر منه التأدية إلى أهله ، كان مالكاً له أو مورداً للانتفاع به .

ثانيهما : إنّ الضمان إنّما هو بمعنى اشتغال الذمّة بالبدل ، فلا بدّ و أن يفرض شخص مالكاً ، ليكون هو من له الذمّة ، و مع عدمه لا معنى لاشتغال الذمّة .

ص:143


1- 1) أشار إليه الشيخ الأعظم (قدس سره) في كتاب المكاسب : 60/4 . [1]
2- 2) مقصوده ( دام ظلّه ) من الحديث هو : حديث اليد ، الوارد عن النبيّ (ص) : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » . مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب كتاب الغصب ، الحديث 4 .

و فيه :

أوّلاً : إنّ معنى الضمان : كون العين في العهدة ، و أثره وجوب ردّ العين مع بقائها ، و بدلها القائم مقامها ملكاً أو مورداً للانتفاع مع تلفها .

و ثانياً : إنّه لا مانع من اعتبار كون الكلّي في الذمّة ، الذي هو مورد لملك الانتفاع ، فمعنى ضمانه للموقوف عليه : اشتغال ذمّته بكلّي البدل ، الذي هو مورد لسلطنته على الانتفاع ، و التقوّم بمن له الذمّة يكفي فيه هذا المقدار .

و قد يقال : إنّ الأظهر هو الضمان ؛ لأنّ مقتضى عموم : « على اليد » هو ضمان المنافع ، أعمّ من المستوفاة و غيرها ، و قد حقّق ذلك في محلّه (1).

و فيه : إنّ هذا الوجه و إن تمّ في نفسه ، كما حقّقناه في الجزء الثالث من كتابنا : منهاج الفقاهة ، و الجزء الخامس عشر من : فقه الصادق (ع) (2)، إلّا أنّ الاستدلال به و تطبيقه على المقام لا يصحّ من جهتين :

إحداهما : إنّه لو تمّ لاقتضى ضمان الغاصب دون المكتسب ، فإنّه ينتفع بما يجوز له ، فليست يده يد ضمان .

ثانيتهما : إنّ المنافع ليست مورداً لانتفاع شخص معيّن كي يصحّ به الضمان ، إذ المنافع المفروضة ليست متعلّقة لحقّ أحد ، فلا وجه لضمانها ، و إن كان استيلاء الغاصب عليها حراماً ، و لعلّ هذا هو السرّ في إرسال الفقهاء عدم الضمان في المقام إرسال المسلّمات .

نعم ، الوجه المذكور يصلح وجهاً لضمان الغاصب للعين إذا تلفت .

ص:144


1- 1) لاحظ : فقه الصادق : 374/16 و 396 ، و [1]منهاج الفقاهة : 268/3 و 288 . [2]
2- 2) لاحظ : فقه الصادق : 374/16 و 396 ، و [3]منهاج الفقاهة : 268/3 و 288 . [4]

حكم تنجيس المسجد - المفتتح شارعاً و لزوم تطهيره :

أمّا الموضع الرابع : و هو أنّه لو جُعلَ المسجد طريقاً ، أو محلّاً للكسب و نحو ذلك ، فهل يجوز تنجيسه و لا يجب تطهيره ؟ أم يحرم الأوّل و لا يجب الثاني ؟ أم يحرم الأوّل و يجب الثاني ؟ أقوال و وجوه .

و قد استدلّ للأخير : بأنّ عنوان المسجديّة من العناوين غير القابلة للزوال ، فمع بقائه شرعاً ، و إن ارتفع ذلك عرفاً تترتّب عليه أحكامه ، كحرمة تنجيسه ، و وجوب تطهيره ، و على فرض التنزّل و تسليم الشكّ في زواله يجري استصحاب بقائه ، و تترتّب عليه أحكامه .

و فيه : إنّ عنوان المسجديّة ، و إن كان غير قابل للزوال ، إلّا أنّ الإشكال في المقام من ناحية عدم الدليل على حرمة تنجيس المسجد ، و وجوب إزالة النجاسة عنه ، سوى أدلّة لا إطلاق لها يشمل كلّ ما يصدق عليه المسجد ، و من المحتمل اختصاص الحكمين بالعامر ، و معه لا بدّ من الأخذ بالمتيقّن ، و في مورد الشكّ يرجع إلى أصالة البراءة عن كلا الحكمين .

و استدلّ للثاني بوجوه :

الوجه الأوّل : إنّ مقتضى إطلاق دليل الحكمين ثبوتهما في الفرض ، إلّا أنّ وجوب الإزالة يكون حرجياً ، فيرتفع بما دلّ على نفي الحرج .

و فيه : إنّ عدم وجوب الإزالة حينئذٍ إنّما يدور مدار الحرج ، فلو لم يلزم و لو في مورد واحد لا وجه للحكم بارتفاع الوجوب ؛ إذ الحرج كسائر ما يؤخذ موضوعاً للحكم ، إنّما يثبت له الحكم إذا تحقّق مصداقه في الخارج ، ففي كلّ مورد لزم من وجوب الإزالة حرج يحكم بعدمه ، و أمّا إذا لم يلزم من جعله الحرج

ص:145

في مورد فلا وجه لارتفاعه .

مع أنّ أدلّة الحكمين لا إطلاق لها يشمل المقام ؛ لورودها في مقام بيان أحكام اخر ، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه ، و قد أشبعناهُ بالبحث في الجزء الثالث من كتابنا : « فقه الصادق » (1).

الوجه الثاني : إنّ دليل الحكمين لا إطلاق له يشمل المقام ، فيتعيّن الرجوع إلى الاستصحاب ، و مقتضاه حرمة التنجيس ، فإنّ هذا الحكم كان ثابتاً له قبل الخراب و يشكّ في ارتفاعه ، فيستصحب بقاؤه ، و هو من الاستصحاب التنجيزي ، و أمّا الاستصحاب القاضي بوجوب الإزالة فهو تعليقي ؛ لأنّ وجوب الإزالة سابقاً كان معلّقاً على تحقّق النجاسة ، و الاستصحاب التعليقي لا يجري ، فبالنسبة إلى وجوب الإزالة يتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة و هي تقتضي عدم الوجوب .

و فيه :

أوّلاً : إنّ حرمة التنجيس و وجوب الإزالة ليسا حكمين ، بل هما حكم واحد ، و هو حرمة وجود النجاسة في المسجد ، و يعبّر عن حرمة إحداث النجاسة بحرمة التنجيس ، و عن حرمة إبقائها بوجوب الإزالة ، فعلى فرض جريان الاستصحاب يجري استصحاب حرمة وجود النجاسة فيه ، و ينتزع منه حكمان : حرمة التنجيس ، و وجوب الإزالة .

و ثانياً : إنّ المختار عندنا عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة مطلقاً من جهة أنّ الشكّ في بقائها مسبّب عن الشكّ في الجعل ، بنحو يكون باقياً ، و حيث إنّ الحكم المشكوك بقاؤه لم يكن في أوّل الشريعة مجعولاً قطعاً ، و يشكّ في جعله ،

ص:146


1- 1) فقه الصادق : 373/3 . [1]

فيستصحب عدم الجعل ، و يثبت به عدم الحكم ؛ بناءً على ما حقّقناه في حاشيتنا على الكفاية و زبدة الاُصول ، من أنّ استصحاب عدم الجعل يجري ، و يثبت به عدم المجعول (1).

و دعوى : أنّ جعل الحكم - المشكوك بقاؤه معلوم ، إمّا إلى الأبد ، أو ما دام لم يشكّ فيه ، فاستصحاب عدم جعله إلى الأبد ، يعارض استصحاب عدم جعله إلى حين زمان الشكّ فيتساقطان ، فيرجع إلى الأصل المحكوم ، و هو استصحاب بقاء المجعول .

مندفعة : بأنّ استصحاب عدم جعله إلى حين زمان الشكّ لا يجري ؛ إذ الجعل في ذلك الزمان معلوم ، فالحقّ عدم جريان استصحاب حرمة التنجيس أيضاً .

الوجه الثالث : ما نسب إلى بعض الأجلّة ، و هو : أنّ دليل حرمة التنجيس لفظي ، و مقتضى إطلاقه حرمة تنجيسه بعد الخراب و جعله طريقاً ، و دليل الإزالة لبّي ، و المتيقّن منه المسجد العامر ، فلو خرب يشكّ في وجوب الإزالة عنه ، و أصل البراءة يقتضي عدم وجوبه .

و فيه : ما تقدّمت الإشارة إليه من أنّهما ليسا حكمين ، بل هما حكم واحد ، و هو حرمة وجود النجاسة في المسجد ، و دليله واحد ، و على فرض التعدّد دليلهما من سنخ واحد .

فالمتحصّل : ممّا ذكرناه عدم حرمة تنجيسه ، و عدم وجوب الإزالة عنه .

ص:147


1- 1) زبدة الاُصول : 389/5 . [1]

المقام الثالث : أحكام الطرق المفتتحة من مقابر المسلمين

اشارة

و أمّا المقام الثالث ، و هو : البحث عن مقابر المسلمين الواقعة في الشوارع ، فالكلام فيه في موارد :

1 - المورد الأوّل : إنّه ذهب جماعة منهم كاشف الغطاء (قدس سره) (1)، و ببالي أنّ منهم المحقّق القمّي (ره) في أجوبة مسائله (2)، إلى أنّ مقبرة كلّ بلد أو قرية ملك لأهل تلك البلدة أو القرية ، و جعلوها من توابع ذلك المحلّ ، و قد صرّح جماعة آخرون بأنّ المقابر كالمساجد لا تكون ملكاً لأحد ، غاية الأمر قد يكون محلّها خاصّاً بهم .

و الحقّ : أنّه يختلف الحال باختلاف الأماكن ، ففي بعضها يقف شخص محلّاً للدفن ، فحاله حينئذٍ حال المساجد في أنّه لا يدخل في ملك أحد ، و في بعضها لا يقف شخص ذلك ، فحينئذٍ كما إنّه لكلّ بلدة مرافق و منتزهات كذلك لها مقابر ، و لكن شيئاً منها لا يكون ملكاً لأهل تلك البلدة ، بل لا تعيّن لمحلّ خاصّ من توابع البلد بالمقبرة ، و لو عيّن محلّ لذلك لا يتعيّن به .

مع أنّ غاية ما هناك تعيّنه لذلك ، و كونه متعلّقاً لحقّ أهله لا كونه ملكاً لهم .

الانتفاع بالمقابر الواقعة في الشوارع :

2 - المورد الثاني : في أنّه هل تجوز الانتفاعات الاُخرى بالمقابر الواقعة

ص:148


1- 1) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء ( الطبعة الحجريّة ) : 412 ، و الظاهر من كتابه شرح القواعد : 193/2 عدوله عن ذلك .
2- 2) الظاهر من كلمات الميرزا القمّي (قدس سره) في جامع الشتات : 101/4 ، هو الميل إلى الرأي الثاني .

في الشوارع منها ، و بما استولي عليه ، و جُعلَ دوراً لهم - مثلاً أم لا؟

و الحقّ : أنّ ما كان منهما وقفاً لا تجوز التصرّفات المنافية للدفن فيه ، أعمّ من جعله طريقاً أو دوراً و ما شاكل ، و لا مانع من التصرّفات غير المنافية ، كالعبور في الشارع المفتوح في المقبرة ، و الجلوس في مقبرة جعلها الظالم دوراً ، و لا يتمكّن الجالس من إرجاعها إلى حالتها الاُولى ، فإنّهما من التصرّفات غير المنافية فيجوزان ، كما أنّه تجوز جميع التصرّفات في المقبرة المتروكة من ناحية اقتضاء المصلحة ذلك ، أو غير ذلك .

و أمّا الجائر الذي جعل المقبرة شارعاً ، و منع من دفن المسلمين فيها ، أو تجاوز عليها و جعلها دكّاناً و محلّاً للكسب ، فليس عليه إلّا الإثم ، و لا يكون ضامناً ، و يظهر وجهه ممّا ذكرناه في المساجد .

ثمّ إنّ الظاهر جواز بيع مثل هذه المقبرة التي لا يمكن أن يدفن فيها المسلمون ، و يكون حالها حال الأوقاف التي صارت خربة لا ينتفع بها فيما وقفت له ، و التي يجوز بيعها بلا كلام .

و أمّا المقبرة التي عيّنت لذلك من دون أن توقف ، فإن تركت و جُعلَ محلّ آخر لدفن الموتى ، فلا إشكال في جواز جميع التصرّفات فيها ، فإنّها من الأرض الميّتة التي لا ربَّ لها ، فيملكها من أحياها ، و قبل الإحياء يكون التصرّف فيها جائزاً لكلّ أحد .

و إن لم تترك ، فإن قلنا بأنّه لا يتعيّن ذلك المحلّ بذلك لها كما هو الحقّ ، فتجوز جميع التصرّفات أيضاً ، و لا يخفى وجهه .

و إن قلنا بتعيّنه لذلك ، فغاية ما هناك الإثم من ناحية المنع من انتفاع ذي الحقّ

ص:149

من تعلّق حقّه ، و هو ما تحت الأرض .

و أمّا التصرّفات التي فوق القبر فكلّها جائزة ، و لا ضمان على من استولى عليها ، كما هو واضح .

لو شكّ في أنّها وقف أم لا؟

3 - المورد الثالث : فيما لو كانت مقبرة و شكّ في أنّها وقف فلا تجوز التصرّفات المانعة من دفن المسلمين فيها ، أم ليست وقفاً فتجوز .

الأظهر : جواز جميع التصرّفات فيها ؛ لأصالة عدم الوقفيّة ، فهي أرض لا ربَّ لها ، فلكلّ مسلم التصرّف فيها .

ص:150

المسألة العاشرة التشريح

اشارة

و تقرأ فيها :

المقام الأوّل: حكم التشريح في نفسه

المقام الثاني: حكم التشريح عند الضرورة

الضرورة الحياتيّة

الضرورة العلميّة ( التطوّر الطبي )

الضرورة الأمنيّة ( كشف الجريمة )

عدم لزوم الدية مع جواز التشريح

ص:151

ص:152

من المسائل التي عمّت بها البلوى في عصرنا هذا ، و كثر الحديث عنها في المجامع العلميّة الطبّية : تشريح جسد الإنسان ، فلا بدّ لنا من بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منه ، و أنّه هل يكون حراماً مطلقاً ؟ أم يختصّ بما يقع على المسلم ؟ أم يجوز مطلقاً ؟ أم عند اقتضاء الضرورة الطبّية ذلك فقط ؟

و الكلام فيه يقع في مقامين :

1 - المقام الأوّل : في أنّه هل هناك دليل يدلّ على حرمة التشريح و لو في الجملة ، أم لا؟

2 - المقام الثاني : في أنّه على فرض الحرمة ، ما ذا يكون حكمه إذا اقتضته الضرورة ؟

المقام الأوّل : حكم التشريح في نفسه :

أمّا المقام الأوّل : فقد استدلّ لحرمته مطلقاً ، حتّى الواقع على الكافر بالنصوص الدالّة على حرمة التمثيل ، إمّا مطلقاً كما في وصيّة أمير المؤمنين لابنه (ع) بأن لا يمثّل بقاتله معلّلاً ذلك بقوله : « إنّي سمعت رسول اللّه (ص) يقول : إيّاكم و المثلة و لو بالكلب العقور » (1).

ص:153


1- 1) الوسائل : الباب 62 ، من أبواب القصاص ، الحديث 6 . [1]

أو في خصوص الكافر حيّاً ، بضميمة ما دلّ على عدم الفرق بين الميّت و الحيّ ، كخبر مسعدة بن صدقة ، عن الإمام الصادق (ع) في حديث ، قال : « إنّ النبيّ (ص) كان إذا بعث أميراً له على سرية ، أمره بتقوى اللّه عزّ و جلّ في خاصّة نفسه ، ثمّ في أصحابه عامّة ، ثمّ يقول : اغزُ بسم اللّه و في سبيل اللّه ، قاتلوا مَن كفر باللّه ، لا تغدروا ، و لا تغلوا ، و لا تمثّلوا ، و لا تقتلوا وليداً » (1).

أو في خصوص قتل الكفّار ، كخبر مالك بن أعين ، قال : حرّض أمير المؤمنين (ع) النّاس بصفّين ، فقال : « إنّ اللّه عزّ و جلّ قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، إلى أن قال : و لا تمثّلوا بقتيل » (2)، فإذا حرّم التمثيل و لو بالقتيل من الكفّار ، حرّم التشريح مطلقاً ؛ لأنّه من مصاديق التمثيل .

و يتوجّه على هذا الاستدلال : إنّ المأخوذ في مفهوم التمثيل هو التنكيل و العقوبة ، و مجرّد قطع العضو بلا قصد التنكيل ، لا يطلق عليه المثلة .

و ما ورد في حلق اللحية من أنّه من المثلة (3)، إنّما يكون في مقام بيان حرمة الحلق و التعبّد بأنه مثلة ، لا في مقام بيان موضوع خارجي ، و بعبارة اخرى : إنّه بعنوان الحكومة يدلّ على أنّ الحلق مطلقاً من المثلة ، و لعلّ السرّ في ذلك أنّ اللحية في سالف الزمان كانت من علامات المجد و المروة و العزّة ، و كان المقصود من حلق اللحية التنقيص من تلك الناحية .

و قد استدلّ للحرمة بما دلَّ على حرمة قطع أعضاء الميّت ، كصحيح ابن أبي عمير ،

ص:154


1- 1) الوسائل : الباب 15 من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه ، الحديث 3 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 34 من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث 1 . [2]
3- 3) و هو قول أمير المؤمنين (ع) : « قال رسول اللّه (ص) : حلق اللحية من المثلة ، و من مثّل فعليه لعنة اللّه » . مستدرك الوسائل : الباب 40 من أبواب آداب الحمّام و التنظيف ، الحديث 1 . [3]

عن جميل ، عن غير واحد ، عن الإمام الصادق(ع): « قطع رأس الميّت أشدّ من قطع رأس الحيّ» (1)، و لعلّ وجه أشدّيّته كاشفيّته عن دناءة طبع القاتل ، و نحوه غيره .

و مثله ما دلَّ على أنَّ في قطع رأسه أو عضو من أعضائه الدية ، كخبر إسحاق بن عمّار ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : قلتُ : ميّت قطع رأسه ؟ قال (ع) : « عليه الدية » ، قلت : فمن يأخذ ديته ؟ ، قال (ع) : « الإمام ، هذا للّه، و إن قطعت يمينه أو شيء من جوارحه فعليه الأرش للإمام » (2)، و نحوه غيره ، فإنّ ثبوت الدية كاشف عن حرمته .

و دعوى : أنّ هذه النصوص مختصّة بالمسلم ، بمناسبة الحكم و الموضوع .

مندفعة : بأنّه لا وجه لهذه الدعوى ، بعد كون الكافر ممّن لا يجوز قتله ، و إنّ في قتله الدية ، كما أنّ دعوى اختصاصها بصورة التوهين للانصراف ، كما ترى .

فالأظهر هو التعميم لكلّ محقون الدم .

و تدلّ عليه في خصوص المسلم جملة من النصوص المختصّة به ، كصحيح ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن صفوان ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « أبى اللّه أن يظنّ بالمؤمن إلّا خيراً ، و كسرك عظامه حيّاً و ميّتاً سواء » (3).

و عنه ، عن مسمع كردين ، قال : سألت أبا عبد اللّه(ع) عن : رجل كسر عظم ميّت ؟ فقال : « حرمته ميّتاً أعظم من حرمته و هو حي » (4).

ص:155


1- 1) الوسائل : الباب 25 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 24 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 3 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 25 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 4 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 25 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 5 . [4]

و خبر العلاء بن سيّابة ، عنه (ع) ، عن رسول اللّه (ص) : « حرمة المسلم ميّتاً كحرمته و هو حيّ سواء » (1)، و نحوها غيرها ، و مقتضى هذه النصوص حرمة قطع عضو من أعضاء الميّت ، فضلاً عن تقطيعه إرباً إرباً ، فالتشريح حرام بلا كلام .

المقام الثاني : حكم التشريح عند الضرورة

اشارة

و البحث في هذا المقام يتمّ في ثلاث نقاط :

النقطة الاُولى : حكم التشريح للضرورة الحياتيّة :

و قد دلّت النصوص على جواز تقطيع بدن الميّت ، و شقّ بطنه ، لحفظ حياة الآخر ، و لها موردان :

1 - الأوّل : ما لو ماتت الحامل ، و الولد حيّ في بطنها ، فإنّه يشقّ بطنها ، و يخرج الولد بلا خلاف ، و تشهد له جملة من النصوص ، كموثّق عليّ بن يقطين ، قال : سألت العبد الصالح (ع) : عن المرأة تموت و ولدها في بطنها ؟ قال (ع) : « يشقّ بطنها و يخرج ولدها » (2)، و نحوه غيره .

2 - الثاني : لو مات الولد في بطنها و هي حيّة ، فإنّه يقطع الولد في فرجها ، و يخرج قطعة قطعة ، و يشهد به خبر وهب بن وهب ، عن الإمام الصادق (ع) ، عن أمير المؤمنين (ع) : « إذا ماتت المرأة ، و في بطنها ولد يتحرّك ، يشقّ بطنها ، و يخرج الولد » . و قال في المرأة يموت في بطنها الولد ، فيتخوّف عليها ؟ قال (ع) : « لا بأس بأن يدخل الرجل يده فيقطعه و يخرجه » (3). و رواه في الكافي في موضع آخر ، و زاد

ص:156


1- 1) الوسائل : الباب 25 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 6 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 46 من أبواب الاحتضار ، الحديث 2 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 46 من أبواب الاحتضار ، الحديث 3 . [3]

في آخره : « إذا لم ترفق به النساء » (1).

و هنا مواضع اخر ، أفتى الفقهاء فيها بجواز التقطيع و شقّ البطن :

منها : ما لو بلع الميّت مالاً كثيراً ، كان لنفسه ، فقد أفتى بعضهم بجواز الشقّ و إخراجه ؛ لأنّ فيه حفظاً للمال عن الضياع ، و عوناً للورثة (2).

و منها : ما لو بلع مال الغير من دون إذنه ، فقد أفتى بعض الفقهاء بجواز الشقّ و الإخراج ؛ لأنّ فيه حفظاً للمال و نفعاً لصاحبه (3).

و منها : غير ذلك من الموارد ، فيستكشف من ذلك كلّه أنّ حرمة التشريح و تقطيع بدن الميّت إنّما هي ما لم تزاحمها مصلحة أقوى ، و إلّا فيجوز .

النقطة الثانية : حكم التشريح للضرورة العلميّة ( التطوّر الطبي ) :

و على ضوء ما ذكرناه : فيمكن القول بجواز التشريح في هذا الزمان لمتعلّمي الطبّ ؛ و ذلك لأنّ التشريح ممّا يتوقّف عليه تعلّم الطب الموجب لحفظ حياة المسلمين ، و إنجائهم من الأمراض ، و لا ريب في أنّ هذا غرض مطلوب للشارع ، و مصلحته أقوى من مفسدة التشريح ؛ لأنّ به يحفظ الأحياء من المسلمين ، و ينجو كثير منهم من الأمراض ، و عليه : فيجوز التشريح لتعلّم الطبّ .

النقطة الثالثة : حكم التشريح للضرورة الأمنيّة ( كشف الجريمة ) :

و ممّا ذكرناه يظهر جواز التشريح لكشف الجريمة ، إذا كان ذلك سبباً لنجاة

ص:157


1- 1) الكافي : كتاب الجنائز ، باب المرأة تموت و في بطنها صبي يتحرّك ، الحديث 2 . [1]
2- 2) احتمله العلّامة الحلّي (قدس سره) في نهاية الاحكام : 282/2 ، و [2]كذلك في منتهى المطلب : 196/7 . [3]
3- 3) احتمله العلّامة الحلّي (قدس سره) أيضاً في المصدرين المتقدّمين ، و استوجهه و تبنّاه في تذكرة الفقهاء : 114/2 .

المتّهمين بالقتل ، أو لمعرفة القاتل ، حتّى يجري في حقّه حكم اللّه تعالى ، أو لغير ذلك من الأغراض الاُخر الضروريّة .

و ما ذكرناه إنّما هو بالنسبة إلى المُقطِّع لأعضاء الميّت ، و أمّا غيره من المتعلمين أو الناظرين فلا أرى وجهاً للحرمة لهم رأساً ، كما هو واضح .

عدم لزوم الدية مع جواز التشريح :

و في قطع رأس الميّت ، أو عضو من أعضائه : الدية ، كما أفتى به الأصحاب (1)، و دلّت على ذلك النصوص (2)، و لكن في مورد جواز التشريح لا يثبت شيء من الدية ، كما هو الشأن في جميع موارد جواز القتل ، أو قطع عضو من الأعضاء كالسنّ و غيره ، و قد دلّت عليه النصوص (3).

ص:158


1- 1) منهم : الشهيد الثاني (قدس سره) في مسالك الأفهام : 490/15 ، و [1]المقدّس الأردبيلي (قدس سره) في مجمع الفائدة و البرهان : 341/14 ، و الشيخ الجواهري (قدس سره) في جواهر الكلام : 384/43 ، و المحقّق الخوئي (قدس سره) في مباني تكملة المنهاج : 517/2 . و السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) في فقه الصادق : 362/26 . [2]
2- 2) الوسائل : الباب 24 و 25 و غيرهما من أبواب ديات الأعضاء .
3- 3) الوسائل : الباب 22 من أبواب ديات القصاص في النفس .

المسألة الحادية عشر زراعة الأعضاء

اشارة

و تقرأ فيها :

المورد الأوّل : حكم الاستفادة من أعضاء الميّت المسلم

المورد الثاني : حكم زراعة الأعضاء

حكم بيع أعضاء الميّت

حكم بيع الدم في الشريعة المقدّسة

المورد الثالث: طهارة الأعضاء المزروعة

المورد الرابع: حكم الصلاة مع الأعضاء المزروعة

ص:159

ص:160

في عصرنا هذا وصل الطب إلى إمكان زرع عيون الموتى في موضع عيون الأحياء ، و ذلك فيما لو اخذت عين الميّت إثر الوفاة فوراً (1)، و قد وقع البحث عن جواز ذلك في المجامع العلميّة الفقهيّة ، فلا بدّ لنا من بيان حكمه الشرعي حسب ما يستفاد من الكتاب و السنّة .

و تنقيح الكلام و البحث في موارد :

1 - المورد الأوّل : حكم أخذ أحد أعضاء الميّت المسلم ، و عدم لزوم الدية فيه .

2 - المورد الثاني : حكم زراعة الأعضاء في جسم الحيّ .

3 - المورد الثالث : حكم الأعضاء المزروعة من حيث الطهارة و النجاسة .

4 - المورد الرابع : حكم الصلاة مع الأعضاء المزروعة .

المورد الأوّل : حكم الاستفادة من أعضاء الميّت المسلم

اشارة

و قد مرّ في المسألة السابقة : أنّ قطع عضو الميّت حرام ، و لكنّه تجوّزه المصلحة المتوقّفة على القطع ، إن كانت أهمّ من مفسدة القطع ، و إذا لاحظنا الموارد التي

ص:161


1- 1) ما أفاده سماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) يحكي عن مدى التطوّر الطبي ، في مرحلة تأليف الكتاب ، أي: قبل ما يقارب الأربعين عاماً ، و إلّا فإنّ علم الطبّ في مرحلتنا الزمنيّة قد بلغ مراحل عالية جدّاً من الرقيّ و التقدّم ، في مجال زراعة الأعضاء الرئيسيّة ، فضلاً عن غيرها .

تتوقّف فيها حياة الإنسان أو بعض أعضائه على ارتكاب المحرّمات ، و رأينا تجويز الشارع الأقدس ارتكاب المحرّمات ، يظهر لنا اهتمام الشارع بحفظ الحياة ، و عدم إتلاف الأعضاء ، فإذا توقّف ذلك على قطع عضو الميّت و ارتكاب هذا المحرّم ، لا محالة يصير جائزاً .

و يمكن الاستشهاد له بخبر زرارة ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سأله أبي و أنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه ، فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه ؟ قال (ع) : « لا بأس » (1)، فإنّه صريح في جواز أخذ السنّ من الميّت و جعله مكان سنّ الحيّ ، و بضميمة إلغاء الخصوصيّة يثبت هذا الحكم في جميع الأعضاء .

و هل يعتبر إذن الميّت قبل وفاته ؟ أم إذن وليّه بعدها ؟ أم لا؟

الأظهر : عدم اعتباره ، من ناحية حرمة القطع الثابت بعنوان أنّه محترم كالحيّ ، و من ناحية أنّه ملك له ، و سيأتي الكلام فيه .

ثبوت الدية :

و هل في أخذ عضو منه و قطعه الدية ، أم لا؟

قد يقال : بثبوتها تمسّكاً بإطلاق ما دلَّ على ثبوت الدية في قطع عضو الميّت (2).

و لكن يمكن أن يقال : إنّ الدية إنّما تثبت بعنوان العقوبة ، فتختصّ بمورد حرمة القطع ، كما يشهد به ما ورد في القصاص ، كخبر الكناني ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سألته عن رجل قتله القصاص ، له دية ؟ فقال : « لو كان ذلك لم يقتصَّ من

ص:162


1- 1) الوسائل : [1]كتاب الصلاة ، الباب 31 من أبواب لباس المصلّي ، الحديث 4 . [2]
2- 2) الوسائل : الباب 24 من أبواب ديات الأعضاء . [3]

أحد » ، و قال : « من قتله الحدّ فلا دية له » (1)، و نحوه غيره .

فإذا جاز القطع لتوقّف مصلحة أهمّ ، لا تكون الدية ثابتة ، و يشهد به خبر السنّ المتقدّم .

المورد الثاني : حكم زراعة الأعضاء

اشارة

قد يتوهّم أنّه لا يجوز الزرع ، من ناحية أنّ المقطوع مملوك للميّت ، و لا يجوز التصرّف في ملك الغير بلا رضا صاحبه .

و لكن يرد عليه : أنّ الإنسان و إن كان مالكاً لنفسه و لأعضائه و أعماله و ذمّته بالملكيّة الذاتيّة ، كما بيّناه في مسألة الشوارع المفتوحة (2)، إلّا أنّ حرمة التصرّف من هذه الناحية ترتفع بإذن الميّت قبل وفاته ، أو وليّه بعد الموت ، و على فرض عدم الإذن يباح التصرّف من جهة توقّف مصلحة أقوى عليه .

و قد يقال : إنّ هذا لا ينافي ثبوت عوض العضو في ذمّته ، فإنّ العضو حينئذٍ له ماليّة ، فمن انتفع به يكون ضامناً لعوضه ، و توقّف مصلحة أقوى عليه موجب لجوازه ، و لا يدفع الضمان ، كما في أكل مال الغير في المخمصة ، و عليه فلا بدّ من ردّ عوضه إلى ورثة الميّت ، فيقسم بينهم كسائر أمواله .

فلو أذن الميّت قبل وفاته بأخذ عيونه لتزرع في جسم إنسان حيّ مجّاناً ، لا يكون عوضه ثابتاً في ذمّة المتصرّف ، فإنّه من قبيل الوصيّة النافذة بمقدار الثلث ، كما إنّ للورثة الإغماض عن العوض لأنّه حقّهم و ملكهم .

ص:163


1- 1) الوسائل : الباب 24 من أبواب القصاص في النفس ، الحديث 1 . [1]
2- 2) تقدّم بيان ذلك في الصفحة : 138 . [2]

حكم بيع أعضاء الميّت :

إلّا أن الإنصاف عدم جواز أخذ عوضه ؛ لما دلّ على أنّ عوض الميتة و ثمنها سحت ، كخبر السكوني عن الإمام الصادق (ع) : « السحت ثمن الميتة » (1).

و لا وجه للخدشة في سنده ؛ إذ ليس في سنده من يمكن القول بعدم حجّية خبره سوى النوفلي و السكوني ، و هما ثقتان على الأظهر (2)، و إن قيل : إنّ الأوّل صار غالياً في آخر عمره (3)، و الثاني عامّي (4).

و موثّق الجعفريات ، عن أمير المؤمنين (ع) ، عن رسول اللّه (ص) : « من السحت ثمن الميتة » (5)، و نحوهما غيرهما .

و هذه النصوص و إن اختصّت بالميتة ، إلّا أنّه يفهم منها حرمة بيع أعضائها أيضاً ، فإنّ المستفاد منها بحسب الارتكاز و المتفاهم العرفي : أنّ الممنوع أخذ العوض بإزائه هو جسد الميّت ، بلا دخل للاتّصال به .

ص:164


1- 1) الوسائل : الباب 5 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 5 . [1]
2- 2) النكتة التي يبني عليها سماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) في توثيق النوفلي ، رغم عدم وجود توثيق له في المصادر الرجاليّة ، هي : أنّ الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه العدّة قد صرّح بأنّ الطائفة قد عملت بما رواه السكوني و غيره من العامّة ، و بما أنّ الراوي الأساس عن السكوني هو النوفلي ، فلازم ذلك اعتماد الطائفة على رواياته أيضاً ، و إلّا لم يتحقّق عملهم بروايات السكوني .
3- 3) قال النجاشي (قدس سره) في رجاله : «الحسين بن يزيد بن محمّد بن عبد الملك النوفلي - نوفل النخع مولاهم كوفي ، أبو عبد اللّه ، كان شاعراً أديباً ، و سكن الري و مات بها ، و قال قوم من القمّيين : إنّه غلا في آخر عمره ، و اللّه أعلم ، و ما روينا له رواية تدلّ على هذا » .
4- 4) أشار إلى كونه عامّياً ، الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه عدّة الأُصول : 149/1 . [2]
5- 5) الوسائل : الباب 5 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 9 . [3]

و تشهد به أيضاً نصوص أليات الغنم ، كصحيح البزنطي ، عن الإمام الرضا (ع) ، قال : سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء ، أ يصلح له أن ينتفع بما قطع ؟ قال (ع) : « نعم ، يذيبها ، و يسرج بها ، و لا يأكلها و لا يبيعها » (1)، و نحوه غيره ، و هذه النصوص و إن اختصّت بالجزء المبان من الحيّ و بالغنم ، إلّا أنّه يثبت في غير الغنم ، و في المبان من الميّت بعدم الفصل .

و لا يعارض هذه النصوص خبر الصيقل و ولده ، الذي توهم دلالته على الجواز ، قال : كتبوا إلى الرجل (ع) : جعلنا اللّه فداك ، إنّا قوم نعمل السيوف ، ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها ، و نحن مضطرّون إليها ، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهليّة ، لا يجوز في أعمالنا غيرها ، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها ، و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا ، و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا ؟ فكتب (ع) : « اجعل ثوباً للصلاة » (2).

و وجه عدم المعارضة : أنّه لا يدلّ على الجواز ، فإنّ الصيقل لم يفهم من جواب الإمام الكاظم (ع) حكم بيع الغلاف الذي هو من جلود الميتة ، و لذا سأل هذه المسألة الإمام الرضا (ع) ، و هو أجابه بمثل جواب أبيه (3)، فكتب إلى الإمام الجواد (ع) ، فأجابه (ع) : « كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّه ، فإن كان ما تعمل وحشياً ذكيّاً فلا بأس »( 4 ) ، و جوابه (ع) ظاهر في عدم جواز البيع .

ص:165


1- 1) الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 6 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 38 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 . [2] عن قاسم الصيقل قال كتبت إلى الإمام الرضا (ع) : إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي ، فاُصلّي فيها ؟ فكتب (ع) : « اتّخذ ثوباً لصلاتك » .
3- 3) الوسائل : الباب 49 من أبواب النجاسات ، الحديث 1 . [3]

و لو تنزّلنا عن ذلك ، و سلّمنا دلالته على الجواز ، حيث إنّه لا يمكن الجمع بينه و بين نصوص المنع ، فيتعيّن الرجوع إلى المرجّحات ، و هي تقتضي تقديم نصوص المنع للأشهريّة ، و غيرها من المرجّحات .

فالمتحصّل : أنّه لا يجوز بيع الميتة و أعضائها .

و مقتضى إطلاق هذه النصوص : عدم الفرق بين الإنسان و غيره ، فلا يجوز بمقتضى هذه النصوص أخذ العوض بإزاء العضو المبان من الميّت .

و بما ذكرناه يظهر حكم أخذ العضو من الحيّ ، فإنّه على ما دلّت عليه النصوص بحكم الميتة ، فلاحظ صحيح أيّوب بن نوح ، الذي رفعه إلى الإمام الصادق (ع) : « إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة » (1)، و نحوه غيره .

حكم بيع الدم :

هل يجوز نقل الدم من شخص إلى شخص آخر ، كما هو الشائع في هذا الزمان ؟ الظاهر : ذلك ، كما يظهر لمن راجع ما قدّمناه .

و لكن ربّما يقال : إنّه لا يجوز أخذ العوض بإزائه ، بأن يبيع الإنسان دمه للغير و يأخذ ثمنه .

و استشهد له بمرفوع أبي يحيى الواسطي ، قال : مرَّ أمير المؤمنين (ع) بالقصّابين ، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة ، نهاهم عن بيع : الدم ، و الغدد ، و آذان الفؤاد ، و الطحال ، و النخاع ، و الخصى ، و القضيب (2)، و مورده و إن كان دم الشاة إلّا أنّه

ص:166


1- 1) الوسائل : باب 62 من أبواب النجاسات ، الحديث 2 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث 2 . [2]

يتعدّى عنه إلى كلّ دم نجس .

و أورد عليه بإيرادات :

1 - إنّه ضعيف السند .

2 - اختصاصه بالدم النجس .

3 - الظاهر منه إرادة عدم جواز البيع للأكل فقط تكليفاً أو وضعاً أيضاً .

و في الجميع نظر :

أمّا الأوّل : فلأنّ ضعفه مجبور بعمل الأصحاب ، و إفتائهم بعدم الجواز ، كما يظهر من النهاية (1)، و المبسوط (2)، و المراسم (3)، فإنّ ما المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة حرمة بيع الدم النجس ، كما حكي عن التذكرة : دعوى الإجماع على عدم جواز بيع نجس العين (4).

و أمّا الثاني : فلأنّه لا محذور في الالتزام بذلك ، بل ظاهر الفتاوى أيضاً كالنصّ ذلك .

و أمّا الثالث : فلأنّه لا وجه لهذه الدعوى سوى دعوى الانصراف ، و مناسبة سياق أخواته ، و كلتا الدعويين كما ترى .

فالمتحصّل : عدم جواز بيع الدم النجس .

و قد استدلّ على عدم الجواز بوجوه اخر ، ذكرناها مع ما يرد عليها في الجزء

ص:167


1- 1) النهاية : 364 .
2- 2) المبسوط : 165/2 .
3- 3) المراسم : 172 .
4- 4) تذكرة الفقهاء : 25/10 . [1]

الأوّل من كتابنا ( منهاج الفقاهة ) ، و الجزء الرابع عشر من ( فقه الصادق ) (1).

إلّا أنّ الإنصاف : إنّ للمنع عن عدم جواز بيعه مجالاً واسعاً ؛ فإنّ الخبر ضعيف السند ، و استناد الأصحاب إليه غير ثابت ، و مجرّد الموافقة في الفتوى لا يجدي في الجبر . مع أنّ أمير المؤمنين (ع) إنّما نهى القصّابين عن بيعه ، و لم ينه عن بيع الدم مطلقاً ، و الدم في ذلك الزمان لم تكن له هذه المنفعة العظيمة ، لا سيّما دم الشاة ، فالتعدّي قياس مع الفارق .

أضف إلى ذلك : اختصاص الدليل بالبيع ، و عدم شموله للصلح مثلاً ، فالأظهر جواز إيقاع المعاملة عليه ، سيّما بنحو الصلح و ما شاكل .

المورد الثالث : طهارة الأعضاء المزروعة

إذا غسل الميّت ، ثُمّ اخذ منه العضو فلا إشكال في طهارته ، و إن اخذ منه قبل الغسل ، فقبل أن يزرع و إن كان نجساً ، إلّا أنّه بعد ما زرع ، و حلّت به الحياة ، يصير من أجزاء الحيّ ، و يتبدّل عنوان كونه ميّتاً و من أعضاء الميّت ، إلى صيرورته جزءاً من أجزاء الحيّ ، و لا شكّ في أنّ موضوع الحكم هو الميتة ، و مع التبدّل ينقلب حكمه ، كما لو فرضنا صيرورة حيوان حيّاً بعد ما كان ميّتاً ، فهل يتوقّف أحد في طهارته إن كان من الحيوانات غير النجسة ، فكذلك في المقام .

و على فرض التنزّل و تسليم الشكّ ، فبما أنّ المختار عدم جريان الاستصحاب في الأحكام (2)، فلا مجال لجريان استصحاب النجاسة ، مضافاً إلى الشكّ في بقاء الموضوع ؛ لاحتمال كون الموضوع لها هو ما ليس فيه الروح ، فيتعيّن الرجوع إلى

ص:168


1- 1) لاحظ : فقه الصادق : 69/14 . [1]منهاج الفقاهة : 50/1 . [2]
2- 2) زبدة الاُصول : 389/5 . [3]

أصالة الطهارة القاضية بالطهارة في المقام .

و بما ذكرناه يظهر حكم ما لو اخذ عضو من أعضاء حيوان غير نجس العين أو كافر ، و زرع في جسم إنسان ، فإنّه قبل الزرع و إن كان محكوماً بالنجاسة ؛ لأنّ الجزء المنفصل من الحيّ أو الميتة من الحيوان نجس ، إلّا أنّه بعد ولوج الروح فيه و صيرورته من أجزاء الإنسان ، و انقلابه إلى عنوان طاهر ، يحكم بطهارته ، بل يحكم بالطهارة و إن كان المأخوذ منه نجس العين .

لا يقال : إنّه إن استحال العضو من كونه عضواً لحيوان نجس العين ، إلى كونه عضواً من إنسان حيّ فلا كلام في الطهارة ، و لكن قبل أن يستحيل ، و مع بقاء إضافته إلى ذلك الحيوان ، يكون مقتضى إطلاق دليل نجاسة ذلك الحيوان بأعضائه نجاسته ، و دليل طهارة الإنسان لا يعارضه ، إن كان مضافاً إلى الإنسان أيضاً ، فإنّ ما دلّ على طهارة الإنسان لا يدلّ على طهارته حتّى مع انطباق عنوان آخر عليه موجب للنجاسة .

فإنّه يتوجّه عليه : إنّ ما افيد و إن كان متيناً مع بقاء الإضافة ، إلّا أنّ الظاهر عدم بقائها بعد ولوج الروح فيه ، و أنّه يكون مضافاً إلى من صار جزءاً منه .

نعم لو شكّ في سلب إضافته عمّن اخذ منه ، يحكم ببقائها للاستصحاب .

المورد الرابع : حكم الصلاة مع الأعضاء المزروعة

قد يسشكل في الصلاة ، بعد زرع أعضاء الميّت في جسد الحيّ ، من نواحٍ ثلاث :

1 - من ناحية نجاسته .

2 - من ناحية كون ما زرع ميتة ، و لا تجوز الصلاة مع الميتة .

3 - من ناحية كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه .

ص:169

أمّا من الناحية الاُولى : فقد تقدّم أنّه بعد الزرع و ولوج الروح فيه ، و صيرورته من أجزاء الإنسان الحيّ يحكم بطهارته ، و به يظهر ارتفاع المنع من الناحيتين الاُخريين .

و أمّا من الناحية الثانية : فإنّ دليل عدم جواز الصلاة في أجزاء الميتة ، من جهة اشتماله على كلمة ( في ) (1)ظاهر في خصوص الملبوس ، و لا يشمل المحمول .

و أمّا من الناحية الثالثة : فإنّ ما دلّ على عدم جواز الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، يقيّد إطلاقه - على فرض الشمول للإنسان ، مع إنّ للمنع عنه مجالاً للانصراف ، فإنّ الحيوان بحسب المتفاهم العرفي منصرف عن الإنسان بما دلَّ على جواز الصلاة في المحمول من أجزاء الإنسان ، كخبر السنّ المتقدّم ، و موثّق الساباطي ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : « لا بأس أن تحمل المرأة صبيها و هي تصلّي و ترضعه و هي تتشهّد » (2)، و نحوه غيره ، و السيرة القطعيّة .

فالأظهر : جواز الصلاة معه .

و المتحصّل ممّا ذكرناه : جواز زرع أعضاء الموتى في أجسام الأحياء ، و زرع الأعضاء المقطوعة من الأحياء كذلك ، و نقل الدم من جسم إلى جسم آخر مع اقتضاء الضرورة ذلك ، أي: مع احتياج الأحياء إلى ذلك ، و لا يجوز أخذ العوض بإزائه إلّا في نقل الدم ، و ملاقيه طاهر ، و تجوز الصلاة معه .

ص:170


1- 1) كمرسل ابن أبي عمير ، عن أبي عبد اللّه (ع) في الميتة ؟ قال : « لا تصلِّ في شيء منه و لا في شسع » . الوسائل : الباب 1 من أبواب لباس المصلّي ، الحديث 2 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 24 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 1 . [2]

المسألة الثانية عشر الذبح بالأجهزة الحديثة

اشارة

و تقرأ فيها :

تأسيس الأصل عند الشكّ في اعتبار قيد في التذكية

حقيقة التذكية

القيود المعتبرة في الذبح الشرعي

بحث حول عدم اعتبار: ( عدم إبانة الرأس )

بحث حول عدم اعتبار: ( عدم الذبح من القفا )

تطبيق الذبح الشرعي على الذبح بالأجهزة الحديثة

ص:171

ص:172

من المشاكل التي ابتلي بها المتديّنون في هذا العصر : ما تعارف في هذا الزمان من ذبح الحيوانات بالآلات الحديثة ، و هو يتمّ بإيقاف مجموعة من الحيوانات ، ثمّ تبتر رءوسها مرّة واحدة بآلة خاصّة ، و لذلك كثر السؤال عن حلّيّة لحم هذه الحيوانات ، و شرعيّة الذبح إذا كان المتصدّي مسلماً ، و ذكرَ اسم اللّه تعالى ، و استقبل بها القبلة .

و لتنقيح البحث في ذلك لا بدّ من بيان ما يعتبر في الذبح الشرعي ، فإن انطبق موضوع الحلّ بشرائطه على هذا الذبح فهو حلال ، و إلّا يكون حراماً .

تأسيس الأصل عند الشكّ في اعتبار قيد في التذكية :

و قبل بيان ما يستفاد من الكتاب و السنّة من القيود و الحدود ، يحسن بنا تأسيس الأصل ، ليكون هو المرجع عند الشكّ في اعتبار شيء في التذكية - مع عدم الدليل على اعتباره أو عدمه .

قد يقال : إنّ التذكية أمر وجودي حادث مسبوق بالعدم ، فلو شكّ أنّها هل تتحقّق بالذبح بغير الحديد - مثلاً أم لا، فمقتضى الأصل عدمها .

و لكن يتوجّه عليه : إنّ التذكية و إن وقع الخلاف في أنّها أمر بسيط معنوي حاصل من فري الأوداج الأربعة بشرائطه ، أم هي عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصّة الوارد على المحلّ القابل .

ص:173

إلّا أنّ الظاهر هو الثاني ، لا لما أفاده المحقّق النائيني (ره) (1)من استناد التذكية إلى المكلّف في الآية الشريفة : ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (2)، فإنّه يرد عليه : إنّه لا شبهة في أنّها فعل المكلّف ، سواء كانت عبارة عن المسبّب ، أو نفس الأفعال الخاصّة ، غاية الأمر على الأوّل تكون فعله التسبيبي ، و على الثاني تكون فعله المباشري .

بل لأنّه في جملة من النصوص رتّبت الحلّيّة على نفس الأفعال ، فلاحظ خبر زيد الشحّام ، عن الإمام الصادق (ع) في حديث : « إذا قطع الحلقوم ، و خرج الدم فلا بأس به » (3)، و نحوه غيره .

أضف إلى ذلك : أنّه ورد في جملة من النصوص : ذكاة الجنين ذكاة امّه (4)، و لو كانت التذكية اسماً للمسبّب لما صحّ هذا الإطلاق ؛ إذ الحاصل من ذلك الأمر المعنوي على فرض ثبوته لكلّ فرد غير ما هو حاصل للآخر قطعاً ، بخلاف ما إذا كانت اسماً للأفعال الخارجيّة .

و على هذا فإذا اتيَ بجميع ما ثبت اعتباره من القيود دون ما شكّ فيه ، فلا محالة يشكّ في تحقّق التذكية ، و في حليّة أكل لحم ذلك الحيوان ، فهل يجري هناك الأصل أم لا؟ و الاُصول المتوهّم جريانها أربعة :

1 - أصالة عدم التذكية ، و نتيجتها : عدم الحلّيّة .

2 - أصالة البراءة عن اعتبار ما شكّ في اعتباره ، و نتيجتها : الحلّيّة .

ص:174


1- 1) فوائد الاُصول : 382/3 .
2- 2) سورة المائدة : الآية 3 . [1]
3- 3) مستدرك الوسائل : الباب 16 من أبواب الذبائح ، الحديث 2 .
4- 4) الوسائل : الباب 18 من أبواب الذبح . [2]

3 - استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة ، و نتيجته : الحرمة .

4 - أصالة الحلّ ، و نتيجتها : الحلّية ، كما هو واضح .

و لكن الأظهر عدم جريان الاُولى ، فإنّ موضوع الحكم ، أي: ما رتّبت الحلّيّة و الطهارة عليه ، ليس هو مجموع الأجزاء و القيود بما هي كذلك ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ مجموع الأجزاء لم يكن متحقّقاً ، و الآن يشكّ في تحقّقه ، فيستصحب العدم ، و بعبارة اخرى : وصف الاجتماع غير دخيل في الحكم ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، كما أنّ الدخيل في الموضوع ليس عنوان السببيّة ؛ إذ مضافاً إلى أنّه عبارة عن الحكم ، لا مثبت لاعتباره ، فلا تجري أصالة عدم تحقّق السبب .

بل الموضوع ذوات الأجزاء المجتمعة ، و تحقّق ما علم اعتباره منها معلوم ، و ما شكّ في اعتباره مفروض العدم ، فلا شيء يجري فيه أصل العدم .

كما أنّ الأظهر عدم جريان الثانية أيضاً ، فإنّ سببيّة المجموع من المعلوم و المشكوك اعتباره ، و ترتّب الحلّيّة و الطهارة عليها معلومة ، فلا معنى لأن ترفع بأدلّة البراءة ، و شرطيّة ما شكّ في اعتباره أو جزئيّته منتزعة من حكم الشارع بسببيّة الذبح المشتمل عليه ، و من المعلوم أنّه غير مرتفع في الفرض ، و إثبات حكم الشارع بسببيّة الفاقد ليس شأن أدلّة البراءة ، فإنّها رافعة للحكم لا مثبتة .

و الأظهر أيضاً : عدم جريان استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة ؛ لعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية ، و لتبدّل الموضوع ، و لعدم ثبوت حرمة الأكل في حال الحياة إذا لم يعرضه الموت قبل البلع ، كما لو بلع سمكاً صغيراً ، فيتعيّن الرجوع إلى الرابعة ، و هي أصالة الحلّ ، فإنّه بعد الذبح بدون ذلك القيد يشكّ في حلّيّة أكل اللحم و عدمها ، فيرجع إلى أصالة الحلّ .

فالمتحصّل : أنّه لو شكّ في اعتبار شيء في الذبح ، و لم يدلّ دليل عليه ، يبني على

ص:175

عدم اعتباره ، و لا يبعد ثبوت الإطلاق لجملة من النصوص فيتمسّك به أيضاً لنفي الاعتبار .

القيود المعتبرة في الذبح الشرعي :

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فاعلم أنّ الحدود و القيود الثابت اعتبارها في حلّيّة الذبيحة ، زائداً على القيود المعتبرة في الحيوان نفسه ، و بعبارة اخرى : القيود المعتبرة في الذبح الشرعي امور :

1 - كون الذابح مسلماً ، و ذلك هو المعروف بين الأصحاب ، و قد استوفينا البحث حول ذلك في الجزء الرابع و العشرين من فقه الصادق ، و أثبتنا عدم اعتباره (1).

2 - كون الذبح بالحديد مع إمكانه ، و الظاهر إنّه لا خلاف فيه .

3 - كون الحيوان مستقبل القبلة حين الذبح مع الإمكان ، إلّا في صورة النسيان و الجهل ، و هل يعتبر أن يكون نحره و بطنه مستقبل القبلة ؟ أم يكفي صدق ذلك و لو كان الحيوان واقفاً ، و يكون رأسه و مقاديم بدنه إلى القبلة ؟ مقتضى إطلاق النصوص هو الثاني ، فلاحظ حسن محمّد بن مسلم ، عن الإمام الباقر (ع) ، قال : سألته عن الذبيحة ؟ فقال : « استقبل بذبيحتك القبلة » (2)، و نحوه غيره .

4 - التسمية من الذابح ، و تشهد به الآيات القرآنيّة . قال اللّه تعالى : ( وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ) (3)، و غير ذلك من الآيات و النصوص ، و لا خلاف فيه فتوى .

ص:176


1- 1) فقه الصادق : 9/24 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 14 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [2]
3- 3) سورة الأنعام : الآية 121 . [3]

و هل تكفي تسمية واحدة لذبح حيوانات متعدّدة أم لا؟ الحقّ هو : التفصيل بين كون الذبح تدريجيّاً ، و بين كونه دفعيّاً ، فإن كان تدريجيّاً لم تكف ، فإنّه حين ذبح الثاني لم يسمّ ، و التسمية الاُولى منفصلة عن هذا الذبح ، و قد امرنا بالتسمية عند الذبح ، و إن كان دفعيّاً كفت الواحدة ، فإنّ مقتضى إطلاق الآيات القرآنيّة المتقدّم بعضها ، و ما شاكلها من النصوص ، هو الاكتفاء في الحلّ بذكر اسم اللّه على الذبيحة ، و في الفرض يصدق أنّه ذكر اسم اللّه على الذبائح ، و اعتبار ذكر اسم اللّه خاصّ لكلّ ذبيحة لم يدلّ دليل عليه ، و قد أفتى الفقهاء بأنّه إذا أرسل الصائد كلباً معلّماً ، أو رمى سهماً ، و ذكر اسم اللّه ، فصاد الكلب صيداً آخر ، أو أصاب السهم حيواناً آخر ، حلّا معاً ، مع أنّ المفروض أنّه لم يسمِّ إلّا واحدة (1).

و بالجملة : المستفاد من الأدلّة اعتبار كون الذابح مسمّياً ، و لذا لو كان متعدّداً يعتبر تسميتهما معاً ، كما لو كان مرسل الكلب للصيد متعدّداً ، و هذا العنوان يصدق في المقام .

5 - فري الأوداج الأربعة : الحلقوم ، و هو مجرى النفس ، و المريء ، و هو مجرى الطعام و الشراب ، و محلّه تحت الحلقوم ، و الودجان ، و هما عرقان كبيران أمام العنق في طرفيه ، محيطان بالحلقوم و المريء ، و يشهد به حسن

عبد الرحمن ، عن أبي إبراهيم (ع) : « إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك » (2).

و ما في جملة من النصوص :

« إذا قطع الحلقوم و خرج الدم فلا بأس » (3)، إمّا أن يحمل على ما ذكره المقداد من أنّ الأوداج الأربعة متّصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع

ص:177


1- 1) راجع : جواهر الكلام : 45/36 ، فقد نفى عنه الخلاف .
2- 2) الوسائل : الباب 2 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [1]
3- 3) الوسائل : الباب 2 من أبواب الذبائح ، الحديث 3 . [2]

الحلقوم فلا بدّ أن ينقطع الباقي معه (1)، أو يقال : إنّها في مقام بيان أحكام اخر ، فلا تدلّ على كفاية قطع الحلقوم خاصّة ، و على فرض تسليم التعارض تقدّم الطائفة الاُولى للشهرة .

و لكلّ من هذه القيود قيود ، كالتتابع في الذبح ، و كون شيء من الأوداج الأربعة على الرأس ، و ما شاكل ، مذكورة في محالّها ، مفروضة التحقّق في المقام (2).

عدم اعتبار ( عدم إبانة الرأس ) :

و هناك امور اخر ، ذهب جماعة إلى اعتبارها ، لا بدّ لنا من التعرّض لها .

منها : عدم إبانة الرأس قبل أن تبرد الذبيحة ، و قد حكي ذلك عن صريح النهاية (3)، و ابن زهرة (4)، و ظاهر ابن حمزة (5)، و الإسكافي (6)، و القاضي (7).

و عن جماعة آخرين : حرمة الإبانة ، و عدم محرّميتها للذبيحة ، منهم العلّامة في المختلف (8)، و الشهيدان (9)، و غيرهم .

ص:178


1- 1) التنقيح الرائع : 20/4 . [1]
2- 2) لاحظ : الموسوعة الفقهيّة الكبرى ( فقه الصادق ) [2] لسماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) : الجزء 24 .
3- 3) النهاية : 584 .
4- 4) غنية النزوع : 397 .
5- 5) الوسيلة : 361 .
6- 6) فتاوى ابن الجنيد : 314 . [3]
7- 7) المهذّب : 440/2 .
8- 8) مختلف الشيعة : 303/8 .
9- 9) شرح اللمعة : 231/7 . [4]

و المشهور بين الأصحاب هو الكراهة ، و في الخلاف دعوى الإجماع عليها (1)، و هو الأظهر ؛ إذ يشهد للجواز مضافاً إلى الأصل و إطلاق الأدلّة ، كقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ) (2)، و قوله تعالى : ( وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) (3)، و غيرهما .

صحيح الحلبي عن الإمام الصادق (ع) : إنّه سئل عن رجل ذبح طيراً فقطع رأسه ، أ يؤكل منه ؟ قال (ع) : « نعم ، و لكن لا يتعمّد قطع رأسه » (4).

و خبر الحسين بن علوان ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن الإمام عليّ (ع) : « إذا أسرعت السكّين في الذبيحة ، فقطعت الرأس ، فلا بأس بأكلها » (5).

و تؤيّده النصوص المتضمّنة أنّها ذكاة و حيّة (6)، أي: سريعة (7).

و استدلّ للقول الثاني :

بصحيح محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) : عن الرجل يذبح و لا يسمّي ؟ قال (ع) : « إن كان ناسياً فلا بأس إذا كان مسلماً ، و كان يحسن أن يذبح ، و لا ينخع ، و لا يقطع الرقبة بعد ما يذبح » (8).

ص:179


1- 1) الخلاف : 53/6 .
2- 2) سورة الأنعام : الآية 118 . [1]
3- 3) سورة الأنعام : الآية 119 . [2]
4- 4) الوسائل : الباب 9 من أبواب الذبائح ، الحديث 5 . [3]
5- 5) الوسائل : الباب 9 من أبواب الذبائح ، الحديث 6 . [4]
6- 6) الوسائل : الباب 9 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [5] عن الفضل بن يسار ، قال : سألت أبا جعفر (ع عن رجل ذبح ، فستبقه السكّين فتقطع الرأس ، فقال : « ذكاة و حيّة ، لا بأس بأكله » .
7- 7) قال في المنجد : يقال : ( موتٌ وحِيٌّ ) أي: سريع ، و( ذكاة وحِيّة ) أي: عاجلة .
8- 8) الوسائل : الباب 15 من أبواب الذبائح ، الحديث 2 . [6]

و نحوه خبر الحلبي (1).

و بصحيح الحلبي المتقدّم آنفاً : « و لكن لا يتعمّد قطع رأسه » ، و نحوه خبر عليّ بن جعفر (2).

و بالموثّق عن الإمام الصادق (ع) سئل عن الرجل يذبح ، فتسرّع السكّين ، فتبين الرأس ؟ فقال : « الذكاة الوحيّة لا بأس ما لم يتعمّد ذلك » (3).

و لكن يرد على الأوّلين : إنّه يحتمل أن تكون ( لا) نافية لا ناهية ، فغايتهما حينئذٍ ثبوت البأس ، الذي هو أعمّ من الحرمة ، مع أنّ موردهما خصوص صورة نسيان التسمية .

و به يظهر ما في الاستدلال بالموثّق .

و أمّا صحيح الحلبي ، و خبر عليّ بن جعفر ، فيحملان على الكراهة ، لكونها المشهورة بين الأصحاب .

و استدلّ للأوّل : بأنّ الذبح المشروع ، هو المشتمل على قطع الأربعة خاصّة ، فالزائد عليها يخرج عن كونه ذبحاً شرعيّاً ، فلا يكون مبيحاً .

ص:180


1- 1) الوسائل : الباب 15 من أبواب الذبائح ، الحديث 3 . [1] عن الحلبي ، عن الصادق (ع) في حديث : إنّه سأله عن الرجل يذبح فينسى أن يسمّي ، أ تؤكل ذبيحته ؟ فقال : « نعم، إذا كان لا يتّهم ، و لا يحسن الذبح قبل ذلك، و لا ينخع، و لا يكسر الرقبة حتّى تبرد الذبيحة » .
2- 2) الوسائل : الباب 9 من أبواب الذبائح ، الحديث 7 . [2] عن عليّ بن جعفر في كتابه ، عن أخيه موسى بن جعفر (ع) ، قال : سألته عن الرجل ذبح فقطع الرأس قبل أن تبرد الذبيحة ، كان ذلك منه خطأً أو سبقه السكّين ، أ يؤكل ذلك ؟ قال : « نعم، و لكن لا يعود » .
3- 3) الوسائل : الباب 9 من أبواب الذبائح ، الحديث 3 . [3]

و فيه : إنّه لا يعتمد عليه ، في مقابل ما تقدّم من الأدلّة ، مع أنّ لازمه حرمة الزيادة و إن لم تكن إبانة ، و لا قائل بها .

عدم اعتبار ( عدم الذبح من القفا ) :

و منها : أن لا يذبح من القفا ، ذهب إليه جماعة (1).

و استدلّ له : بأنّه مستلزم لإبانة الرأس ، و هي توجب الحرمة ، و قد مرّ ما فيه .

و بأنّه : يعتبر استقرار الحياة للذبيحة قبل أن تذبح بفري الأوداج ، كما ذهب إليه الشيخ و جماعة (2).

و وجه اعتباره : إنّ ما لا تستقرّ حياته قد صار بمنزلة الميّت ، مع أنّ استناد موته إلى الذبح ليس أوْلى من استناده إلى السبب ، الموجب لعدم الاستقرار ، بل السابق أوْلى ، فصار كأنّ هلاكه بذلك السبب فيكون ميتة ، و عليه فإذا ذبح من القفا ، فحينما تصل آلة الذبح إلى الأوداج لا تكون للحيوان حياة مستقرّة ، فإنّ الحياة المستقرّة فُسِّرت بأن لا تكون الذبيحة مشرفة على الموت ، بحيث لا يمكن أن يعيش مثلها اليوم أو الأيّام ، و المذبوح من القفا الباقية أوداجه من مصاديق ذلك .

و لكن الحقّ تبعاً لأكثر القدماء و المتأخّرين : عدم اعتبار استقرار الحياة ، بل عن الشيخ يحيى بن سعيد : إنّ اعتبار استقرار الحياة ليس من المذهب ، بل المعتبر أصل الحياة المستكشفة بالحركة بعد الذبح ، و لو كانت جزئيّة يسيرة ،

ص:181


1- 1) منهم المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان : 100/11 ، و هو ظاهر الشيخ (قدس سره) في المبسوط : 390/1 ، و العلّامة (قدس سره) في القواعد : 323/2 .
2- 2) حكاه في الجواهر عن أكثر المتقدّمين و المتأخّرين ، فلاحظ 141/36 .

أو خروج الدم المعتدل (1).

و الوجه في عدم اعتبار استقرار الحياة : استثناء ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) من النطيحة ، و هي : التي تنطحها بهيمة فتموت ، و المتردّية ، و هي : التي تتردّى من سطح أو تسقط في بئر أو هوّة ، فتموت ، و ما أكل السبع ، في الآية الشريفة (2)، المفسّرة في صحيح زرارة عن الإمام الباقر (ع) : « كُلْ كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير ، و النطيحة ، و المتردّية ، و ما أكل السبع ، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) ، فإن أدركت شيئاً منها و عين تطرف ، أو قائمة تركض ، أو ذنب يمصع ، فقد أدركت ذكاته فكله » (3).

و جملة من النصوص .

كصحيح الحلبي ، عن الإمام الصادق(ع) : « إذا تحرّك الذنب ، أو الطرف ، أو الاُذن فهو ذكي » (4).

و خبر عبد الرحمن ، عن الإمام الصادق (ع) في كتاب عليّ (ع) : « إذا طرفت

ص:182


1- 1) دعوى أنّ اعتبار الاستقرار ليس من المذهب حكاها عنه الشهيد الأوّل (قدس سره) في الدروس : 415/2 ، و لم أعثر عليها في كلمات المحكي عنه ، لا في كتابه ( الأشباه و النظائر ) ، حيث لم يتعرّض لمسائل الذباحة من الأساس ، و لا في كتابه ( الجامع للشرائع ) أيضاً ، و إن كان هذا الأخير لا يخلو من بعض العبارات الدالّة على رأيه المذكور ، و إن لم تكن صريحة فيه ، كقوله (قدس سره) في الصفحة 381 : «و أدنى ما يلحق به الذكاة أن يجده بطرف عينه ، أو بركض رجله» ، و كذلك قوله (قدس سره) في الصفحة 388 : « و إن ذبح أو نحر فخرج الدم يشخب أو تحرّك بعض أعضائه حلّ ، و إن لم يحصلا لم يحصل » .
2- 2) سورة المائدة : الآية 3 . [1]
3- 3) الوسائل : الباب 11 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [2]
4- 4) الوسائل : الباب 11 من أبواب الذبائح ، الحديث 3 . [3]

العين ، أو ركضت الرجل ، أو تحرّك الذنب ، فكلْ منه ، فقد أدركت ذكاته » (1).

و خبر أبان بن تغلب ، عنه (ع) : « إذا شككت في حياة شاة ، فرأيتها تطرف عينها ، أو تحرّك اذنيها ، أو تمصع بذنبها ، فاذبحها فإنّها لك حلال » (2).

و خبر زرارة ، عن الإمام الباقر (ع) في حديث : « و إن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح ، فوقعت في النّار ، أو في الماء ، أو من فوق بيتك ، إذا كنت قد أجدت الذبح ، فكلْ » (3).

و النصوص الكثيرة الواردة في أنّ الموقوذة و المتردّية و المنخنقة و ما أكل السبع إذا أدركتها حيّةً ، و ذكّيتها يحلّ أكلها (4)، و غير ذلك من الروايات .

و أمّا الاكتفاء بأحد الأمرين من الحركة و خروج الدم ، فبيانه موكول إلى محلّه (5).

فالمتحصّل : عدم اعتبار استقرار الحياة ، بل المعتبر أصل الحياة ، و عليه فالذبح من القفا لا إشكال فيه ، إن كان الحيوان حيّاً قبل أن يفري الأوداج ، و مات بعد تماميّة الفري .

و هناك امور اخر قيل باعتبارها و لعدم ارتباطها بمسألتنا هذه ، نوكل تنقيح القول فيها إلى محلّه (6).

ص:183


1- 1) الوسائل : الباب 11 من أبواب الذبائح ، الحديث 6 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 11 من أبواب الذبائح ، الحديث 5 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 13 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 19 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 . [4]
5- 5) فقه الصادق : 57/24 . [5]
6- 6) فقه الصادق : الجزء 24 .

تطبيق الذبح الشرعي على الذبح بالأجهزة الحديثة :

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّه في الفرض إذا فرضنا أنّ الذابح مسلم ، و آلة الذبح من الحديد ، و يسمّي الذابح حينما يذبح ، و يقطع الأوداج الأربعة ، فيمكن القول بحلّيّة الذبائح ، بل الظاهر ذلك ، فإنّ توهّم عدم الحلّيّة إنّما يكون لأحد هذه الاُمور :

1 - إنّ الذبيحة لا تكون مستقبلة للقبلة ، لعدم كون منحرها و بطنها إليها .

2 - إبانة رأسها بهذا الذبح .

3 - تذبح من القفا ، و لا حياة مستقرّة لها قبل فري الأوداج ، و بعد الذبح من القفا .

4 - إنّ الذابح يسمّي واحدة للذبائح المتعدّدة .

و شيء من ذلك لا يوجب الحرمة .

أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ مقتضى إطلاق النصوص كفاية الاستقبال بالذبيحة بأي نحو كان في الحلّيّة ، و لا تعتبر كيفيّة خاصّة ، و لو أوقف الحيوان إلى القبلة بأن كان رأسه إليها يصدق أنّه مستقبل للقبلة ، كما في الإنسان في حال الركوع و السجود ، و الإبل في حال النحر إذا كانت قائمة .

و أمّا الثاني : فلما تقدّم من عدم اعتبار عدم إبانة الرأس في حلية الذبيحة ؛ إذ غاية ما هناك حرمة الإبانة نفسها ، لا حرمة الذبيحة بسببها ، مع أنّها أيضاً غير ثابتة ، بل تكره الإبانة .

و أمّا الثالث : فلما تقدّم من عدم اعتبار استقرار الحياة ، و كفاية أصل الحياة ، و إنّ الذبح من القفا لا يوجب حرمة الذبيحة .

ص:184

و أمّا الرابع : فلما تقدّم من كفاية البسملة الواحدة للذبائح المتعدّدة ، إذا ذبحت دفعة .

فالمتحصّل : حليّة هذه الذبائح .

و أوْلى بالحليّة من ذلك ما لو كان المذبوح واحداً ، أو فرضنا أنّه انيم مستقبل القبلة ، فإنّ بعض الموانع المتوهّمة لا تجري فيهما كما لا يخفى .

و قد وقع الفراغ من جمع هذه المسائل ، ليلة السادس و العشرين من شهر رمضان ، سنة 1384 ، و اللّه وليّ التوفيق ، و هو حسبي و نعم الوكيل .

ص:185

ص:186

المسألة الثالثة عشر تحديد النسل و تنظيمه

اشارة

و تقرأ فيها :

مشكلة التضخّم السكّاني

الفرق بين تحديد النسل و تنظيمه

طرق تحديد النسل و تنظيمه

بحث حول أصالة ( الإباحة )

بحث حول محبوبيّة تكثير النسل

حكم تنظيم النسل في الشريعة المقدّسة

حكم تحديد النسل في الشريعة المقدّسة

الموقف الفقهي من طرق تحديد النسل :

إسقاط الحمل

العزل و( الغطاء الواقي )

تأخير الزواج

ضبط النفس عن المقاربة

أقراص الحمل ، و اللولب ، و طريقة ( أوجينو )

ص:187

ص:188

مشكلة التضخّم السكّاني :

من المشاكل الأخيرة التي شغلت العلماء و المسئولين في معظم بلدان العالم : مشكلة تضاعف السكّان - بعد أن قضى العلم على الأمراض التي تميت النّاس في طور الطفولة ، و تقلّص نطاق الحروب و ما ينشأ منها من الارتباك للدولة في تأمين الأعمال لعدد وفير من النّاس ، تعجز مرافقها الإداريّة و الاقتصاديّة و التجاريّة عن استيعابه ، و بالأخصّ الدول البعيدة عن التطوّر الصناعي .

فإنّ سكّان العالم في تزايد رهيب مستمرّ ، و حسب التقريرات العلميّة فإنّ عدد سكّان العالم سيبلغ ما يقرب من 6 مليارات نسمة في أواخر القرن العشرين ، و يعلّق الفيلسوف ( برتراندراسل ) على هذه المشكلة بقوله :

« إنّ عدد سكّان الأرض في الخمسة و العشرين عاماً القادمة سيبلغ 3/5 مليارد نسمة ، و ذلك يتطلّب تفكيراً جدّياً ؛ لأنّه و إن بدا لنا الأمر بسيطاً بادئ الأمر ، لكنّه لا يلبث أن يتحوّل إلى مشكلة عويصة ، لا يمكن التهرّب منها بأي شكل كان ، و ذلك يعني تحولاً تامّاً في تطوّر البشريّة ، و ثمّة تفسير لذلك هو : أنّه بعد خمسة و عشرين عاماً ستنقلب المشاكل الاقتصاديّة و الاجتماعيّة ، و كلّ ما يترتّب عليها ، رأساً على عقب .

و على الجملة : فهذه المشكلة الآن حديث الأوساط العلميّة ، و لذلك اضطرّوا

ص:189

إلى إيجاد حلول لتحديد النسل .

و قد منعت الكنيسة الكاثوليكيّة - منعاً باتّاً كلّ الوسائل التي تستخدم لتحديد النسل ، لكنّها في الوقت نفسه اعترفت بالوسائل التي تخوّل للزوجين التفادي عن الحمل عمداً ، و هذا يعني أنّ الكنيسة تسمح بممارسة الوسيلة الطبيعيّة فقط ، و هي التحكّم بالأعصاب .

و على ذلك فلا بدّ لنا من بيان موقف الشريعة المقدّسة الإسلاميّة الخالدة - التي صرّح صادعها الأقدس بأنّه قد بيّن حكم كلّ موضوع (1)من مسألة تحديد النسل و تنظيمه .

تحرير محلّ النزاع :

و تنقيح القول في ذلك : إنّ في المقام عنوانين : تنظيم النسل ، و تحديده .

أمّا تنظيم النسل : فهو عبارة عن تنظيمه بالنسبة إلى النساء اللاتي يسرع إليهنّ الحمل ، و كذلك بالنسبة للأشخاص ذوي الأمراض المنتقلة ، و الأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليّات الكثيرة ، مع عدم من يقوّيهم على احتمال هذه المسئوليات ، و هذا تنظيم فردي ، و البحث فيه ليس وليد الأيّام المتأخّرة .

و أمّا تحديد النسل : فله فردان : التحديد الفردي ، و التحديد النوعي ، و الأوّل واضح ، و أمّا الثاني فهو عبارة عن إصدار قانون عامّ يُلزم الاُمّة كلّها أن تقف بالنسل عند حدّ معيّن ، و مورد النزاع أخيراً هو هذا .

ص:190


1- 1) لاحظ : الفصول المهمّة في اصول الأئمّة (ع) : 480/1 ، الباب 7 من أبواب الكليات المتعلّقة باُصول الفقه .

طرق تحديد النسل و تنظيمه :

و قبل بيان موقف الشريعة المقدّسة لا بدّ من بيان طرق تحديد النسل ، و قد ذكروا في مقام علاج المشكلة التي أشرنا إليها : أنّه لا بدّ من تحديد النسل من خلال إحدى الطرق الآتية :

1 - الطريقة الاُولى : إسقاط الحمل - و هذه الطريقة شائعة في بعض المجتمعات و هو عبارة عن طرح المرأة لما حملته من الحمل ، بشرب الدواء ، أو بغير ذلك من الأنحاء .

2 - الطريقة الثانية : العزل ، بأن يعزل الرجل عن زوجته ، و يفرغ المنيّ خارج الفرج بعد المجامعة ، و يلحق به ما شاع في هذا الزمان من استعمال وعاء بلاستيكي خاصّ ، يمنع من إفراغ المنيّ في الفرج .

3 - الطريقة الثالثة : تأخير زواج الفتيات حتّى يبلغن مرحلة الكهولة أو الشيخوخة ، و هذه الطريقة شائعة في الصين .

4 - الطريقة الرابعة : كفّ النفس عن ممارسة الجماع .

5 - الطريقة الخامسة : استعمال الأقراص الخاصّة ضدّ الحمل على برنامج مخصوص ، و هذه منتشرة في جميع أنحاء العالم .

6 - الطريقة السادسة : الطريقة الشهيرة للعالم ( أوجينو ) ، و التي تعتمد على حسابات خاصّة ، يتمّ من خلالها تحديد وقت الخصب عند المرأة ، ليتفادى الزوج مقاربة زوجته في تلك الفترة ، و هذا يتطلّب بعض التحكّم في أعصابهما .

و يفهم من طريقته : أنّه يجب تقدير موعد الدورة الشهريّة التالية ، ثمّ العدّ بطريقة عكسيّة ، و بذلك يكون ما بين اليوم الثاني عشر و السادس عشر ، هي الأيّام

ص:191

التي تكثر فيها الخصوبة عند المرأة ، و تصبح على استعداد لحدوث حالة الحمل .

7 - الطريقة السابعة : الطريقة الأمريكيّة ، و هي عبارة عن : وضع بعض الأجسام الصغيرة ، ذات شكل دائري أو بيضاوي داخل الرحم ، فتمنع الحمل ، و يعبّر عنها ب ( اللولب ) .

و هذه الطريقة ليست وليدة الأيّام المتأخّرة ، بل هي شائعة منذ عهد ( ارسطوطاليس ) ، الذي كان يروي كيف كان الجمّالون يضعون أجساماً غريبة في رحم الناقة كي لا تحمل ، لكنّها فشلت عند ما طبّقت على الإنسان .

و كان أوّل طبيب نجح في تجربة مماثلة هو : طبيب آلماني الأصل ، ابتكر حلقات خاصّة من الحرير ، تطوّرت فيما بعد ، و أصبحت تصنع من الفضّة ، و حيث إنّهم وجدوا أنّ مضار هذه الطريقة أكثر من فوائدها تركوها .

و بعد فترة من الزمن جدّد أحد المكتشفين اليابانيّين طريقة أسلافه ، فوجد أنّها تنجح ، و في الإمكان ترك هذه الأدوات التي توضع في الرحم ، لمدّة عشرين عاماً دون أن تأتي بأي تأثير على المرأة التي تستعملها ، و اجريت دراسات من هذا النوع على تسعة عشر ألف امرأة فكان أن كلّلت التجربة بالنجاح الكامل .

و استولى الأمريكيّون بعد ذلك على هذه الطريقة ، و أدخلوا عليها بعض التحسينات الخاصّة ، و في النهاية وجدوا أنّه قلّما يحدث معها حمل بصورة خاطئة ، و هذا يعني أنّ النجاح كان حليفهم ، كما و إنّهم وجدوا أنّه باستعمال هذه الطريقة قلّما يصاب الأطفال بتشويه ، أو بعاقبة خطرة ، و لا يدخل الرحم أي تركيب كيمياوي ، و يمكن حدوث الحمل بعد سحب الجسم الخاصّ من الرحم بشهرين .

هذه هي عمدة الطرق الشائعة لتحديد النسل و تنظيمه ، و لعلّه هناك بعض الطرق الاُخرى ، و لكنّها يعلم حكمها ممّا سنبحثه حول هذه الطرق .

ص:192

أصالة الإباحة :

و قبل بيان حكم كلّ طريق من هذه الطرق ، لا بدّ من بيان أمرين :

الأوّل : إنّ الشارع الأقدس حكم حكماً عامّاً بإباحة كلّ عمل ، إلّا ما خرج بدليل خاصّ ، أي: إنّه (ص) بيّن كلّ ما هو ممنوع عنه ، و حكم بإباحة ما سوى ذلك ، فكلّ ما لم يرد منع عنه يكون محكوماً بالإباحة و الرخصة ، بل قد حكم الشارع بإباحة كلّ ما لم يعلم كونه ممنوعاً عنه .

و تدلّ على الأوّل جملة من الآيات :

منها : قوله تعالى : ( وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1)، فإنّ بعث الرسل بحسب الارتكاز و الفهم العرفي كناية عن البيان .

و على ذلك ، فمفاد الآية الشريفة : عدم العقاب و المؤاخذة على مخالفة التكليف ما لم يبيّن ، و بالملازمة العرفيّة تدلّ على عدم التكليف ، و كون ذلك الفعل مرخّصاً فيه .

و منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها ) (2)، و تقريب الاستدلال به : إنّ المراد بالموصول هو الحكم ، فيكون الإيتاء المستند إليه تعالى بمعنى إعلامه ، فمفاده أنّ اللّه تعالى لا يوقع العباد في كلفة حكم لم يبيّنه و سكت عنه .

و منها : قوله تعالى مخاطباً لنبيّه (ص) ، ملقّناً إيّاه طريق الردّ على الكفّار ، حيث حرّموا على أنفسهم بعض الأشياء : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (3)، حيث إنّه عزّ و جلّ أبطل تشريعهم

ص:193


1- 1) سورة الإسراء : الآية 15 . [1]
2- 2) سورة الطلاق : الآية 7 . [2]
3- 3) سورة الأنعام : الآية 145 . [3]

بعدم وجدان ما حرّموه فيما أوحى اللّه تعالى ، فلو لم يكن عدم وجوده كافياً في الحكم بالإباحة و عدم الحرمة لما صحّ الاستدلال .

و منها : قوله عزّ و جلّ : ( وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) (1)، و تقريب الاستدلال به على ما سبق .

و تدلّ عليه من السنّة أخبار كثيرة ، كخبر حمزة بن الطيّار ، عن الإمام الصادق (ع) : « إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم و عرّفهم » (2).

و خبر أبي الحسن زكريّا بن يحيى ، عنه (ص) : « ما حجب اللّه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3).

و ما رواه الصدوق عن الإمام الصادق (ع) : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (4)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة .

و ممّا يدلّ على الثاني - أي: إباحة ما لم يعلم المنع عنه : قوله (ص) : « رفع عن امّتي تسعة أشياء » ، و عدّ منها : « ما لا يعلمون » (5).

ص:194


1- 1) سورة الأنعام : الآية 119 . [1]
2- 2) الكافي : كتاب التوحيد - باب حجج اللّه على خلقه ، الحديث 4 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28 . [3]
4- 4) ( )الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 19 من أبواب القنوت ، الحديث 3 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، و [5]ما يناسبه من كتاب الجهاد ، و إليك نصّ الحديث كما عن الخصال : عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد اللّه ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « رفع عن امّتي تسعة أشياء : الخطأ، و النسيان، و ما اكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق، ما لم ينطقوا بشفة » .

و تقريب الاستدلال به : أنّ ما لم تعلم حرمته ، و لم تقم على حرمته حجّة ، مرفوع عن الاُمّة ، و معنى رفعه ليس رفع الحكم الواقعي كي تختصّ الأحكام بالعالمين ، و إلّا لزم الخلف ، لعدم إمكان أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه ، مضافاً إلى النصوص الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالمين و الجاهلين .

و لا رفع المؤاخذة ؛ إذ لا حاجة إلى التقدير بعد كون الرفع تشريعاً و إخراجاً للموضوع عن عالم التشريع .

بل المرفوع هو : الحكم في مرحلة الظاهر ، أي: إيجاب الاحتياط ، لا بتقديره ، بل من جهة أنّ إيجاب الاحتياط إنّما يكون من مقتضيات نفس التكليف الواقعي ، فثبوته إنّما يكون نحو ثبوت للحكم الواقعي ، و لهذا يصحّ في مقام التعبير عن رفعه ، أن يقال : بأنّه رفع للحكم الواقعي في الظاهر ، و إذا رفع ذلك ترتّب عليه عدم المؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي ، فإنّ المؤاخذة - كوجوب الطاعة من الاُمور الواقعيّة المترتّبة على المجعول الشرعي أعمّ من الظاهري و الواقعي ، فكما أنّ عدم الحكم الواقعي مستلزم لعدم العقاب ، كذلك التعبّد بعدمه في الظاهر .

و المراد من لفظة : ( ما ) التي هي من الموصولات ، و موضوعة لمفهوم جامع بين جميع الأشياء ، نظير لفظ ( الشيء ) ، هو : الجامع بين الحكم و الفعل ، فيعمّ الحديث الشبهة الحكميّة و الموضوعيّة .

فإن قيل : إنّ لازم ذلك هو الجمع بين الإسناد الحقيقي و المجازي ، حيث إنّ إسناد الرفع إلى الفعل مجازي ، و المرفوع في الحقيقة حكمه ، و إلى الحكم حقيقي .

أجبنا عنه : بأنّ الرفع بما أنّه تشريعي لا تكويني ، و إخراج الموضوع عن عالم التشريع ممكن حقيقة ، فإسناده إلى كلّ منهما حقيقي .

أضف إلى ذلك : أنّ الإسناد في مقام الإنشاء و الاستعمال ، و إن كان واحداً إلّا أنّه

ص:195

في الحقيقة و اللبّ عبارة عن إسنادات عديدة حسب تعدّد المصاديق ، فلا مانع من كون أحدهما حقيقيّاً و الآخر مجازيّاً .

فالمتحصّل من هذه الجملة من الحديث : أنّ كلّ ما لم تثبت حرمته في الشريعة محكوم في الظاهر بالحليّة و الإباحة ، و لا يؤاخذ عليه .

و يشهد به أيضاً موثّق مسعدة بن صدقة ، عن الإمام الصادق (ع) : « كلّ شيء هو لك حلال ، حتّى تعلم أنّه حرام بعينه ، فتدعه من قِبل نفسك » (1).

و تقريب الاستدلال به : أنّه يدلّ على إباحة كلّ ما لم تعلم حرمته ، و ما في ذيله من الأمثلة التي هي من قبيل الشبهة الموضوعيّة ، لا تصلح قرينة لرفع اليد عن ظهور الصدر في العموم ؛ لعدم التنافي ، كما أنّ كلمة ( بعينه ) لا تصلح قرينة لذلك ، فإنّها مذكورة في الغاية ، و لا تكون شاهدة على أنّ ما قبل الغاية مقيّد بكونه لا بعينه ، كي يقال : إنّ العناوين الكلّية كشرب التتن ، إمّا أن تكون معلومة الحرمة أو لا تكون ، و على الأوّل فهي معلومة بعينها ، و على الثاني فهي غير معلومة ، و أمّا العلم بكونها محرّمة لا بعينها فهو لا يتحقّق إلّا في موارد العلم الإجمالي ، مع كون الشبهة محصورة ، و ظاهر أنّه لا يحكم فيها بالحلّية ، فيختصّ الحديث بالشبهة الموضوعيّة ، فإنّ الشكّ فيها غالباً يلازم العلم بالحرام لا بعينه ، فإنّ من شكّ في حرمة مائع لاحتمال كونه خمراً يعلم غالباً بوجود الخمر خارجاً ، المحتمل انطباقه عليه ، فيكون الحرام معلوماً لا بعينه ، و لكن تكون أطرافه غير محصورة ، فيجوز أن

ص:196


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 ، و تتمّة النصّ هكذا : « و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة ، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك ، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » .

يقال : إنّ ما هو محلّ الابتلاء من أطرافه لا يعلم أنّه حرام بعينه ، فهذه الكلمة قرينة لاختصاص الخبر بالشبهة الموضوعيّة .

و تشهد به غير ذلك من النصوص المرويّة عن المعصومين (ع) ، و تنقيح القول في هذه المسألة موكول إلى محلّه في الاُصول (1)، و إنّما الغرض هنا الإشارة الإجماليّة إلى القاعدة الكلّية المستفادة من الكتاب و السنّة .

و عليه : فإذا لم تثبت حرمة طريق من طرق تحديد النسل ، يبنى على حلّيّته و إباحته .

محبوبيّة تكثير النسل :

الأمر الثاني : إنّ التناسل و التوالد و تكثير الولد مطلوب شرعاً ، و قد حثّ عليه في الكتاب و السنّة .

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (2)، و قوله تعالى في مقام الامتنان على عباده : ( وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) (3).

و أمّا النصوص الصادرة عن المعصومين (ع) ، فلها ألسنة مختلفة ،

كخبر محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « أكثروا الولد اكاثر بكم الاُمم غداً » (4).

ص:197


1- 1) زبدة الاُصول : 363/4 . [1]
2- 2) سورة الكهف : الآية 46 . [2]
3- 3) سورة النحل : الآية 72 . [3]
4- 4) الوسائل : [4]كتاب النكاح ، الباب 1 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 8 . [5]

و

خبر يونس بن يعقوب ، عن رجل ، عن أبي الحسن (ع) ، قال : سمعته يقول : « سعد امرأ لم يمت حتّى يرى خلفاً من نفسه » (1).

و

خبر الصدوق ، قال أبو الحسن (ع) : « إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً لم يمته حتّى يريه الخلف » (2).

قال : و روي : « إنّ من مات بلا خلف فكأنّ لم يكن في النّاس ، و من مات و له خلف فكأنّه لم يمت » (3).

و

خبر سدير عن أبي جعفر (ع) : « من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبهه و خَلقه و خُلقه و شمائله » (4).

و

خبر السكوني ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « من سعادة الرجل الولد الصالح » (5).

و

خبر بكر بن صالح ، قال : كتبت إلى أبي الحسن (ع) : إنّي اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين ، و ذلك أنّ أهلي كرهت ذلك ، و قالت : إنّه يشتدّ علَيَّ تربيتهم لقلّة الشيء ، فما ترى ؟ فكتب (ع) إلَيَّ : « اطلب الولد ، فإنّ اللّه يرزقهم » (6).

و

خبر عيسى بن صبيح ، قال : دخل العسكري (ع) علينا الحبس ، و كنت به عارفاً ، فقال لي : « لك خمس و ستّون سنة ، و شهر و يومان » ، و كان معي كتاب

ص:198


1- 1) الوسائل : [1] كتاب النكاح ، الباب 1 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 9 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب النكاح ، الباب 1 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 10 .
3- 3) الوسائل : [3] كتاب النكاح ، الباب 1 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 11 ، و الرواية مرسلة و مضمرة .
4- 4) الوسائل : [4] كتاب النكاح ، الباب 1 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 6 .
5- 5) الوسائل : [5] كتاب النكاح ، الباب 2 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 4 .
6- 6) الوسائل : [6] كتاب النكاح ، الباب 3 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 1 .

دعاء عليه تاريخ مولدي ، و إنّي نظرت فيه ، فكان كما قال ، ثمّ قال : « هل رزقت من ولد ؟ » ، قلت : لا، قال : « اللّهمّ ارزقه ولداً يكون له عضداً ، فنعم العضد الولد » ، ثمّ قال : « مَن كان ذا ولد يدرك ظلامته ، إنّ الذليل ليس له ولد » (1).

و

خبر السكوني ، عن الإمام الصادق (ع) ، عن رسول اللّه (ص) : « نعم الولد البنات ، ملطفات ، مجهزات ، مؤنسات ، مباركات ، مفليات » (2).

و خبر أبان بن تغلب ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « البنات حسنات ، و البنون نعمة » (3)، إلى غير ذلك من الأخبار ، و قد عقد لها في الوسائل أبواباً (4)،

ص:199


1- 1) الوسائل : [1] كتاب النكاح ، الباب 3 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 2 .
2- 2) الوسائل : [2]كتاب النكاح ، الباب 4 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 4 . [3]
3- 3) الوسائل : [4] كتاب النكاح ، الباب 5 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 7 .
4- 4) لقد عقد لها في كتاب النكاح من الوسائل أبواباً تحت عنوان ( أبواب أحكام الأولاد ) ، و في كلّ باب أورد عدّة روايات ، فمنها : 1 - باب استحباب الاستيلاد و تكثير الأولاد . 2 - باب استحباب إكرام الولد الصالح و طلبه و حبّه . 3 - باب استحباب طلب الولد مع الفقر و الغنى ، و القوّة و الضعف . 4 - باب استحباب طلب البنات و إكرامهنّ . 5 - باب كراهة كراهة البنات . 6 - باب تحريم تمنّي موت البنات . 7 - باب استحباب زيادة الرقة على البنات ، و الشفقة عليهنّ أكثر من الصبيان . 8 - باب استحباب الدعاء في طلب الولد بالمأثور . 9 - باب استحباب الصلاة و الدعاء لمن أراد أن يحبل له . 10 - باب ما يستحبّ من الاستغفار و التسبيح لمن يريد الولد . 11 - باب استحباب رفع الصوت بالأذان في المنزل لطلب كثرة الولد . 12 - باب ما يستحب قراءته عند الجماع لطلب الولد .LلLE لا13 - باب استحباب اختيار الولود للتزويج و إن لم تكن حسناء . هذا كلّه مضافاً إلى ما في الأبواب المتفرّقة .

في كلّ باب روايات .

و عليه : فلا شكّ في أنّ تكثير النسل مطلوب شرعي في نفسه ، بل هو السبب لبقاء أبناء آدم .

و إنّما الكلام في أنّ زيادة ذلك بما أنّه يترتّب عليها الآن محذور اجتماعي كما مرّ ، فهل يجوز التحديد - و الحال هذه أم لا؟

حكم تنظيم النسل :

أمّا تنظيم النسل بالمعنى المتقدّم ، فلا ريب في جوازه ، بل مطلوبيّته ، بل ربّما يصل إلى حدّ اللزوم ، و قد حدّد القرآن الكريم مدّة الرضاع بحولين كاملين 1، و حذّر الرسول (ص) أن يرضع الطفل من لبن الحامل ، و مقتضى ذلك إباحة وقف الحمل مدّة الرضاع ، فتأمّل 2.

ص:200

و أيضاً لا كلام في أنّ صيانة النسل من الضعف و الهزال ، و حفظه من الأمراض مطلوبة للشارع ، و قد علّل بعض فقهاء العامّة ثبوت الفسخ لعقد إجارة المرضع إذا تبيّن أنّ بها حملاً ، بأنّ لبن الحبلى يضرّ بالصغير (1)، و أنّ الإرضاع يضرّها أيضاً (2)، و علّلوا تحريم الزواج من المحارم ، بأنّه يورث ضعف الولد في الخلق و الخُلق .

و ورد عن أهل البيت (ع) : « اجتنبوا الحمقاء ، فإنّ ولدها ضياع » (3). و علّل في الروايات استحباب اختيار ذات العقل ، بأنّ الحمقاء يتعدّى حمقها إلى ولدها (4)،

ص:201


1- 1) يظهر من معاجم اللغة ، في ذيل مادة ( غيل ) : أنّ مضرية لبن الحامل بالرضيع كانت من الاُمور المعروفة لدى العرب ، و لذلك كانوا يعبّرون عن لبن الحامل ب ( الغيل ) و عن عمليّة إرضاعها ب ( الغيلة ) ، و إليك ما أفاده علّامة اللغويّين ابن منظور في ( لسان العرب ) : « [1]الغيل : أن ترضع المرأة ولدها على حبل ، و اسم ذلك اللبن الغيل أيضاً ، و إذا شربه الولد ضوي و اعتلّ منه» .
2- 2) لاحظ : البحر الرائق في شرح كنز الدقائق / ابن نجيم الحنفي : 39/8 ، و مواهب الجليل / الرعيني : 564/7 .
3- 3) الوسائل : الباب 33 من أبواب مقدّمات كتاب النكاح و آدابه ، الحديث 1 . [2]
4- 4) الوسائل : كتاب النكاح ، الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد .

إلى غير ذلك من الأخبار و الكلمات .

كما أنّ حفظ المرأة نفسها من ضعف الأعصاب ، و الأمراض الاُخر ، مطلوب شرعاً ، بل لازم ، و مقتضى ذلك كلّه مطلوبيّة تنظيم النسل .

و على الجملة : إنّ الشارع الأقدس حينما يحثّ على تكثير النسل ، و يباهي بالكثرة ، يحثّ على وجه العموم ، و نتيجة ذلك أنّ الشريعة المقدّسة تطلب كثرة قويّة ، و تلتمس الأيدي العاملة في الحياة و اتّساع العمران ، و السبيل إلى حصول تلك الكثرة القويّة ، و العمل على تنظيم النسل تنظيماً يحفظ له نشاطه ، و للاُمّة كثرتها و نماءها .

و هو إنّما يكون بمنع الحمل بين الزوجين ، إذا كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتعدّى إلى النسل و الذرّيّة ، و كذلك بمنع الحمل مؤقّتاً لتتمكّن الاُمّ من إرضاع الطفل إرضاعاً كاملاً نقيّاً ، يساهم - بشكل فاعل في بنائه العقلي و الجسدي.

و هل خوف الوقوع في الحرج ؟ بسبب عدم القدرة على تربية الأولاد و العناية بهم ، و كذلك خوف ضعف الأعصاب عن تحمّل واجباتهم و متاعبهم ، من علل مطلوبيّة منع الحمل أم لا؟ وجهان .

حكم تحديد النسل :

و أمّا تحديد النسل ، فقد عرفت أنّه فردي و نوعي ، و للنوعي منه قسمان : أحدهما : توقيف النسل إلى حدّ معيّن ، و ثانيهما : منع الحمل فترة من الزمن .

أمّا التحديد النوعي للنسل ، فلا كلام في أنّه بمعنى توقيف نسل الأمة إلى حدّ معيّن ، المؤدّي إلى الانقراض بعد حين ، حرام شرعاً .

و أمّا بمعنى منع الحمل فترة من الزمن ، و التحديد الفردي ، فمن حيث هو لا دليل

ص:202

على حرمته ، و مقتضى القاعدة المتقدّمة في الأمر الأوّل المستفادة من الكتاب و السنّة هو : الجواز .

و قد استدلّ للحرمة بوجوه :

الأوّل : إنّ الولد كما يكون حقّاً للوالدين يكون للاُمّة أيضاً ، بل حقّ الاُمّة في الولد أقوى من حقّ الوالدين ، لا سيّما في هذا العصر ، عصر التنافس بين الاُمم في الكثرة و القوّة ، و التحديد مناف لذلك ، فلا يجوز .

و فيه : إنّ كون هذا الحقّ لزوميّاً أوّل الكلام ، و لا دليل عليه ، مع أنّه قد عرفت أنّ محلّ الكلام : ما إذا ترتّب محذور نوعي اجتماعي على تكثير النسل ، و هو بهذا العنوان مرغوب عنه شرعاً ، كما لا يخفى .

الثاني : إنّ الكتاب و السنّة حثّا على تكثير النسل كما تقدّم ، و التحديد و التقليل ينافيهما .

و فيه : إنّهما لا دلالة لهما على لزوم ذلك ، كما عرفت ، مع أنّه إذا لزم منه اختلال النظام ، كما هو المفروض ، لا ريب في عدم الوجوب .

الثالث : إنّ جماعة من فقهاء العامّة ، منهم محمّد بن حبّان البستي ، صاحب الصحيح و التصانيف العديدة ، و ابن حزم الأندلسي ، ذهبوا إلى تحريم منع الولد مطلقاً ، فإنّ فيه صرف السيل عن واديه ، مع حاجة الطبيعة إليه ، و استعدادها للإنبات و الإثمار لما ينفع النّاس و يعمر الكون .

و فيه : إنّ هذا التعليل بنفسه - مع الإغضاء عن قائله لا يوجب الحرمة ، غايته الكراهة مع عدم انطباق عنوان ثانوي مطلوب ، كحفظ النظام عليه .

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه : جواز تحديد النسل و تنظيمه ، من حيث

ص:203

أنفسهما ، بل ربّما يكونان راجحين ، بل واجبين في بعض الأحيان .

نعم ، تحديد النسل النوعي ، بمعنى توقيف نسل الاُمّة إلى حدّ معيّن حرام ، كما مرَّ .

حكم إسقاط الحمل :

إذا عرفت ما ذكرناه يقع الكلام في حكم طرق تحديد النسل :

أمّا الطريقة الاُولى : و هي إسقاط الحمل ، فقد اتّفقت الأمة على أنّه بعد نفخ الروح فيه حرام ، لا يحلّ لأحد أن يفعله ، لأنّه جناية على الحيّ .

كما أنّهم اتّفقوا على حرمته إذا أوجب هلاك الاُمّ .

و يشهد لحرمته : ما دلّ على حرمة إلقاء النفس في الهلكة ، و وجوب حفظ النفس المحترمة من الآيات و الروايات بألسنة مختلفة 1.

إنّما الكلام في إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه ، و عدم الإضرار بالاُمّ ، و المختار لدينا في هذه المسألة هو : حرمة إسقاط الحمل ، و لزوم دفع الدية فيه ، تدفع إلى من يرث المال منه لو كان حيّاً .

أمّا ثبوت الدية : و هي عشرون ديناراً 2إذا كان نطفة ، و أربعون إذا كان علقة ، و ستّون إذا كان مضغة ، و ثمانون إذا كان عظماً ، و مائة إذا كسي اللحم ، ودية كاملة و هي ألف دينار إذا كان ذكراً ، و خمسمائة إذا كان انثى في

ص:204

حال ولوج الروح ، كما هو المشهور بين الأصحاب ، و عن غير واحد دعوى الإجماع عليه (1).

فتشهد به نصوص كثيرة :

كالصحيح ، عن أمير المؤمنين (ع) ، قال : « جعل دية الجنين مائة دينار ، و جعل منيّ الرجل إلى أن يكون جنيناً خمسة أجزاء ، فإذا كان جنيناً قبل أن تلجه الروح مائة دينار ، و ذلك إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق الإنسان من سلالة و هي النطفة ، فهذا جزء ، ثمّ علقة ، فهو جزءان ، ثمّ مضغة فهو ثلاثة أجزاء ، ثمّ عظماً فهو أربعة أجزاء ، ثمّ يكسى لحماً فحينئذٍ تمَّ جنيناً ، فكملت له خمسة أجزاء مائة دينار ، و المائة دينار خمسة أجزاء ، فجعل للنطفة خمس المائة عشرين ديناراً ، و للعلقة خمسي المائة أربعين ديناراً ، و للمضغة ثلاثة أخماس المائة ستّين ديناراً ، و للعظم أربعة أخماس المائة ثمانين ديناراً ، فإذا كسا اللحم كانت له مائة كاملة ، فإذا نشأ فيه خلق آخر ، و هو الروح ، فهو حينئذٍ نفس بألف دينار كاملةٍ إن كان ذكراً ، و إن كان انثى فخمسمائة دينار » (2)، و نحوه غيره .

و عن العماني : القول بثبوت الدية الكاملة فيه ، و إن لم تلج فيه الروح (3).

و استدلّ له بصحيح أبي عبيدة ، عن الإمام الصادق (ع) : في امرأة شربت دواء ، و هي حامل لتطرح ولدها ، فألقت ولدها ، قال : « إن كان له عظم قد نبت عليه اللحم ، و شقّ له السمع و البصر ، فإنّ عليها دية تسلّمها إلى أبيه » (4)،

ص:205


1- 1) الجواهر : 356/43 . [1]
2- 2) الوسائل : [2]كتاب الديات ، الباب 19 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 1 . [3]
3- 3) فقه ابن أبي عقيل العماني : 537 .
4- 4) الوسائل : [4]كتاب الديات ، الباب 20 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 1 . [5]

و نحوه صحيح ابن مسلم (1).

و فيه : إنّه يمكن حملهما على إرادة الدية الكاملة للجنين ، و هي المائة دينار ، أو يقيّدان بما إذا ولج فيه الروح ، ويتعيّن ذلك للنصوص المتقدّم بعضها .

و هناك خلافات اخر منشأها اختلاف النصوص ، و لعدم ارتباطها بما هو محلّ البحث فعلاً ، فالإغماض عن التعرّض لها أوْلى .

و أمّا كونه حراماً : فيشهد له مضافاً إلى ما تقدّم ، و إلى ما يشعر به من جعل الدية ، خبر إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي الحسن (ع) : المرأة تخاف الحبل ، فتشرب الدواء ، فتلقي ما في بطنها ؟ قال : « لا» ، فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال (ع) : « إنّ أوّل ما يخلق نطفة » (2).

فالمتحصّل : أنّ إسقاط الحمل حرام ، و فيه الدية .

ص:206


1- 1) الوسائل : [1]كتاب الديات ، الباب 19 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 4 . [2] عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (ع) عن الرجل يضرب المرأة [3]فتطرح النطفة ؟ فقال : «عليه عشرون ديناراً» ، فقلت : يضربها فتطرح العلقة ؟ فقال : «عليه أربعون ديناراً» ، فقلت : فيضربها فتطرح المضغة ؟ قال : «عليه ستّون ديناراً» ، فقلت : فيضربها فتطرحه و قد صار له عظم ؟ فقال : «عليه الدية كاملة، و بهذا قضى أمير المؤمنين (ع) » . فقلت : فما صفة النطفة التي تعرف بها ؟ فقال : «النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت فيه أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة» ، قلت : فما صفة خلقة العلقة التي تعرف بها ؟ فقال : «هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة، تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة» ، قلت : فما صفة المضغة و خلقتها التي تعرف بها ؟ فقال : «هي مضغة لحم حمراء، فيها عروق خضر مشبكة، ثمّ تصير إلى عظم» ، قلت : فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟ فقال : «إذا كان عظماً شقّ له السمع و البصر و رتّبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإنّ فيه الدية كاملة» .
2- 2) الوسائل : [4] كتاب الديات ، الباب 7 من أبواب القصاص في النفس ، الحديث 1 .

حكم العزل :

و أمّا الطريقة الثانية : و هي العزل .

فلا كلام نصّاً و فتوى في جوازه ، في غير الحرّة الدائميّة ، و فيها مع إجازتها كما تشهد به النصوص الآتية ، إنّما الكلام فيه في موردين :

1 - في جوازه تكليفاً في الحرّة بدون إذنها .

2 - في ثبوت الدية فيه .

جواز العزل :

أمّا الأوّل : فالمشهور بين الأصحاب الكراهة (1)، و عن الشيخين في المقنعة (2)، و الخلاف (3)، و المبسوط (4)، و جماعة (5): أنّه محرّم ، و استدلّ للحرمة بوجوه :

1 - الوجه الأوّل : النبويان العامّيان ، في أحدهما : إنّه (ص) نهى أن يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها ، و في الآخر : هو الوأد الخفيّ ، أي: قتل الولد (6).

ص:207


1- 1) منهم : القاضي ابن البرّاج (قدس سره) في المهذّب : 223/2 ، و ابن إدريس (قدس سره) في السرائر : 419/3 ، و المحقّق الحلّي (قدس سره) في المختصر النافع : 172 ، و الشيخ يحيى بن سعيد (قدس سره) في الأشباه و النظائر : 102 ، و الفاضل الآبي (قدس سره) في كشف الرموز : 107/2 ، و العلّامة الحلّي (قدس سره) في مختلف الشيعة : 95/7 ، و غيرهم في غيرها .
2- 2) المقنعة : 516 .
3- 3) الخلاف : 356/4 .
4- 4) المبسوط : 267/4 .
5- 5) منهم : ابن حمزة (قدس سره) في الوسيلة : 314 ، و ابن أبي جمهور (قدس سره) في الأقطاب الفقهيّة : 137 ، و الشهيد الأوّل (قدس سره) في اللمعة الدمشقيّة : 102/5 ، و غيرهم في غيرها .
6- 6) مسند أحمد : 361/6 و434 . سنن ابن ماجة : 648/1 ، الحديث 2011 .

و بهما يقيّد إطلاق نصوص الجواز ، كخبر محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، عن العزل ؟ فقال : « ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء » (1).

و خبر عبد الرحمن ، عنه (ع) ، عن العزل ؟ فقال (ع) : « ذاك إلى الرجل » (2)، و نحوهما غيرهما .

2 - الوجه الثاني : إنّ فيه تفويتاً للغرض من النكاح ، و هو الاستيلاد .

3 - الوجه الثالث : إنّ العزل يمنع من حصول المرأة على حقّها في الاستمتاع ، فيكون حراماً لهذه الجهة .

4 - الوجه الرابع : إنّه تجب فيه الدية ، و ثبوتها يقتضي الحرمة .

5 - الوجه الخامس : خبر محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (ع) : إنّه سئل عن العزل ؟ فقال (ع) : « أمّا الأمة فلا بأس ، فأمّا الحرّة فإنّي أكره ذلك إلّا أن يشترط عليها حين يتزوّجها » (3).

و في خبره الآخر : « إلّا أن ترضى ، أن يشترط ذلك عليها حين يتزوّجها » (4).

6 - مفهوم خبر الجعفي ، قال : سمعت أبا الحسن (ع) يقول : « لا بأس بالعزل في ستّة وجوه : المرأة التي تيقّنت أنّها لا تلد ، و المسنّة ، و المرأة السليطة ، و البذيّة ، و المرأة التي لا ترضع ولدها ، و الأمة » (5).

و في الجميع نظر :

ص:208


1- 1) الوسائل : الباب 75 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 75 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 2 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 76 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 1 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 76 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 2 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 76 من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ، الحديث 4 . [5]

أمّا الأوّل : فلأنّهما ضعيفان سنداً ، مع أنّ خبري محمّد بن مسلم و عبد الرحمن المتقدّمين كالصريحين في الجواز بلا رضاها ، فإنّ قوله : «ذاك إلى الرجل » ، كالصريح في ذلك ، فيحملان على الكراهة .

و أمّا الثاني : فلأنّ الغرض من النكاح ليس واجب التحصيل .

و أمّا الثالث : فلأنّه لا يجب كلّ ما يوجب التذاذ المرأة ، مع أنّه إنّما يكون بإنزالها لا بالإنزال فيها .

و أمّا الرابع : فلأنّ ثبوت الدية أعمّ من الحرمة ، مع أنّها غير ثابتة كما ستعرف .

و أمّا الخامس : فلأنّ الكراهة أعمّ من الحرمة ، مع أنّ جملة من النصوص - كما عرفت صريحة في الجواز ، حتّى مع عدم الرضا و الإذن و الشرط ، فيحمل على الكراهة المصطلحة .

و أمّا السادس : فمضافاً إلى أنّه من قبيل مفهوم الوصف ، و لا نقول به (1)، إنّه لو سلّمت دلالته فإنّه يحمل على الكراهة لما تقدّم .

و على ذلك : فالأظهر هو جواز العزل تكليفاً ، على كراهية في المورد المفروض ، و تشهد به مضافاً إلى الأصل جملة كثيرة من النصوص المتقدّم بعضها .

عدم الدية في العزل :

و أمّا الثاني : فعن الشيخ (2)، و القاضي (3)، و أبي الصلاح (4)، و ابني حمزة (5)،

ص:209


1- 1) زبدة الاُصول : 250/3 .
2- 2) الخلاف : 293/5 . النهاية : 779 .
3- 3) المهذّب : 510/2 .
4- 4) الكافي : 392 .
5- 5) الوسيلة : 456 .

و زهرة (1)، و الكيدري (2)، و غيرهم (3)، ثبوت الدية فيه و وجوبها .

و عن المعظم ، كالحلّي (4)، و العلّامة (5)، و ثاني المحقّقين (6)، و الشهيدين (7)، و غيرهم (8): عدم الوجوب ، و استدلّ للأوّل بما ادّعاه الشيخ (ره) من الإجماع على ذلك (9).

و بالصحيح المروي عن أمير المؤمنين (ع) : أفتى في منيّ الرجل يفزع عن عرسه ، فيعزل عنها الماء ، و لم يرد ذلك : نصف خمس المائة عشرة دنانير (10)، الظاهر في لزوم الدية مع العزل كائناً ما كان السبب ، و لا ينافي ذلك اختصاصه بغير المتنازع فيه ، بعد ظهور أنّ المنشأ هو التفويت المطلق .

و لكن يرد على الأوّل : إنّه موهون بمصير المعظم إلى خلافه ، بل عن نهايته ذلك أيضاً (11)، مع أنّه ليس تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (ع) .

ص:210


1- 1) ( )غنية النزوع : 411/1 .
2- 2) إصباح الشيعة : 431 .
3- 3) منهم : الشهيد الأوّل (قدس سره) في اللمعة الدمشقيّة : 103/5 ، و الفاضل الهندي (قدس سره) في كشف اللثام : 270/7 ، و هو ظاهر ابن فهد الحلّي (قدس سره) في الرسائل العشر : 391 .
4- 4) شرائع الإسلام : 282/4 .
5- 5) مختلف الشيعة : 421/9 .
6- 6) جامع المقاصد : 506/12 .
7- 7) مسالك الأفهام : 484/15 .
8- 8) منهم : ابن إدريس (قدس سره) في السرائر : 418/3 ، و الفاضل الآبي (قدس سره) في كشف الرموز : 107/2 ، و الشهيد الثاني (قدس سره) في الروضة البهيّة : 103/5 ، و صاحب المدارك (قدس سره) في نهاية المرام : 560/1 ، و غيرهم في غيرها .
9- 9) الخلاف : 293/5 .
10- 10) الوسائل : [1]كتاب الديات ، الباب 19 من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث 1 . [2]
11- 11) حكاه عنه في جواهر الكلام : 114/29 ، و [3]لم أعثر عليه في النهاية ، [4] بل المذكور فيها خلافه ، حيث قال في الصفحة 779 : «و كذلك إذا عزل الرجل عن زوجته الحرّة بغير اختيارها ، كان عليه عشر دية الجنين يسلّمه إليها على ما روي في الأخبار» .

و يرد على الثاني : عدم كونه ظاهراً فيما ذكر ، و قياس الزوج بالأجنبي مع الفارق ، مع أنّ النصوص المجوّزة المصرّحة بأنّه ماؤه يضعه حيث يشاء ، الدالّة على أنّه لا حقّ للمرأة على الرجل في مائه ، تعارضه على فرض الدلالة و تقدّم عليه ، فلا وجه لاستحقاقها الدية ، فالأظهر عدم ثبوت الدية أيضاً .

تأخير الزواج :

و أمّا الطريقة الثالثة : و هي تأخير الزواج ، فهو في نفسه مرغوب عنه ؛ إذ لا شكّ في مطلوبيّة الزواج من أوائل البلوغ ، و في الجواهر : النكاح مشروع ، بل مستحبّ ، لمن اشتاقت نفسه إليه من الرجال و النساء كتاباً ، و سنّة مستفيضة أو متواترة ، و إجماعاً بقسميه من المسلمين ، فضلاً عن المؤمنين ، أو ضرورة من المذهب ، بل الدين (1).

و يشهد به الكتاب و السنّة :

أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (2).

لأنّ أمر الأولياء شرعاً أو عرفاً بإنكاح الأيامى ، أي: العزّاب ، و الترغيب فيه ، ليس إلّا من جهة كون النكاح مرغوباً فيه ، و مطلوباً و راجحاً في نفسه .

و قوله تعالى : ( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ) ردّ لما عسى أن يمنع من النكاح من خوف

ص:211


1- 1) جواهر الكلام : 8/29 . [1]
2- 2) سورة النور : الآية 32 . [2]

العيلة ، بأنّ اللّه يغنيهم من فضله ، و لذا قال النبيّ (ص) : « مَن ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظنّه باللّه عزّ و جلّ ، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول : ( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) » (1).

و أمّا السنّة : فنصوص كثيرة :

كخبر الكليني ، عن أبي عبد اللّه (ع) قال : « إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يترك شيئاً ممّا يحتاج إليه إلّا و علّمه نبيّه ، فكان من تعليمه إيّاه ، إلى أن قال : إنّ الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر ، إذا أُدرك ثمره فلم يجتنى أفسدته الشمس ، و نثرته الرياح ، و كذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهنّ دواء إلّا البعولة ، و إلّا لم يؤمن عليهنّ الفساد لأنّهنّ بشر » (2).

و خبر أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن بعض أصحابه ، عن الإمام الصادق (ع) : « من سعادة المرء أن لا تطمث ابنته في بيته » (3).

و خبر الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (ع) في حديث الأربعمائة : « تزوّجوا ، فإنّ التزويج سنّة رسول اللّه (ص) » (4).

و صحيح صفوان ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « تزوّجوا و زوّجوا » (5).

و خبر محمّد بن مسلم ، عن الإمام الصادق (ع) ، عن أمير المؤمنين (ع) :

ص:212


1- 1) الوسائل : الباب 10 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 2 . [1]
2- 2) الكافي : كتاب الحجّ ، باب ما يستحبّ من تزويج النساء عند بلوغهنّ ، الحديث 2 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 23 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 1 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 6 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 10 . [5]

« تزوّجوا ، فإنّ رسول اللّه (ص) قال : مَن أحبّ أن يتبع سنّتي فإنّ من سنّتي التزويج » (1).

و خبر محمّد الأصم ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « رذّال موتاكم العزّاب » (2)، و العُزّاب - بالضمّ و التشديد : الذين لا أزواج لهم من الرجال و النساء .

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرّقة ، و قد عقد لذلك في الوسائل أبواباً بألسنة مختلفة (3)، فالتسريع في الزواج مطلوب شرعي ، و قد يجب كما إذا ظنّ الضرر بالترك ؛ لوجوب دفع الضرر المظنون .

و قيل : عند خوف الوقوع في المحرّم بدونه (4).

فالمتحصّل : إنّ هذه الطريقة غير صحيحة .

ضبط النفس عن المقاربة :

و أمّا الطريقة الرابعة : و هي كفّ النفس عن المقاربة ، فهي في نفسها مرغوب عنها شرعاً ، و قد دلّت الآيات و النصوص الكثيرة ، و التي تقدّم ذكر جملة منها على

ص:213


1- 1) الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 14 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 2 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 3 . [2]
3- 3) لاحظ : أبواب مقدّمات النكاح و آدابه : 5 ، 10 ، 11 ، 23 و غيرها من الأبواب .
4- 4) ذهب إليه العلّامة الحلّي (قدس سره) في قواعد الأحكام : 5/3 ، و في إرشاد الأذهان : 4/2 ، و تبعه ابنه (قدس سره) في إيضاح الفوائد : 3/3 ، و ابن فهد الحلّي (قدس سره) في المهذّب البارع : 151/3 ، و المحقّق الكركي (قدس سره) في جامع المقاصد : 10/12 ، و الشهيدان 0 في الروضة البهيّة : 194/5 ، و المقدّس الأردبيلي في زبدة البيان : 521 ، و غيرهم في غيرها ، و قد عرّض بالجميع المحدّث البحراني (قدس سره) في الحدائق الناضرة : 18/23 ، فلاحظ .

مطلوبيّة ذلك شرعاً ، فإنّ المأمور به فيها ، و إن كان هو النكاح و الزواج ، إلّا أنّها من جهة ما فيها من التعليل بحصول النسل ، و تكثير الاُمّة ، و إبقاء النوع ، و الخلاص من الوحدة ، و طلب الرزق و الولد الصالح ، كالصريحة في أنّ المطلوب الأصلي هو المجامعة .

أضف إلى ذلك : أنّه يحرم ترك وطء الزوجة الشابة أكثر من أربعة أشهر ، كما يشهد به خبر صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الرضا (ع) : إنّه سأله عن الرجل تكون عنده المرأة الشابة ، فيمسك عنها الأشهر و السنة لا يقربها ، ليس يريد الإضرار بها ، يكون لهم مصيبة ، يكون في ذلك آثماً ؟ قال : « إذا تركها أربعة أشهر كان آثماً بعد ذلك » (1).

و على ذلك فترك المقاربة مرغوب عنه شرعاً ، و حرام في الجملة .

لا يقال : إنّ اللّه تبارك و تعالى في الآية الشريفة : ( أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ ) (2)، وصف يحيى (ع) بكونه حصوراً ، و هذا يؤذن برجحان هذا الوصف في نفسه .

فإنّه يمكن الجواب عنه بوجوه :

1 - إنّ المخاطب في الآية هو زكريّا في مقام البشارة بالولد ، و هذا يقتضي حسنه عنده لا عندنا ، و لقد نسخ ذلك بالآية المتقدّمة .

2 - إنّه كان مكلّفاً بإرشاد أهل زمانه في بلادهم ، المقتضي لمفارقة الزوجة و السياحة المنافيتين لرجحان التزويج ، فلذلك مدحه على تركه ، لا لأنّ ترك

ص:214


1- 1) الوسائل : الباب 71 من أبواب مقدّمات النكاح ، الحديث 1 . [1]
2- 2) سورة آل عمران : الآية 39 . [2]

الزواج من حيث هو كذلك مطلوب و مراد ، حتّى يدلّ على مرجوحيّته .

3 - ما أفاده جمع بقولهم : إنّ مدحه ليس على ترك التزويج حتّى يدلّ على مرجوحيّته ، بل على انكسار الشهوة الطبيعيّة له بغلبة الخوف ، و استيلاء الخشية ، و قهرها بالعبادات و الرياضات ، و لا ريب في حسن ذلك و مدحه ، و إن أدّى إلى ترك التزويج المطلوب ، فإنّ تأدية الشيء إلى ترك أمر مطلوب لا ينافي حسنه ، لتمانع أكثر الطاعات مع اتّصاف جميعها بالحسن ، و إنّما اطلق عليه ذلك لأنّ وجود الشهوة فيه بمنزلة العدم ، فكأنّه حصور لا شهوة له أصلاً ، و ليس إطلاقه عليه لترك النساء حتّى يكون مدحاً له على ذلك .

سائر الطرق :

و أمّا سائر الطرق الثلاثة : ( استعمال أقراص منع الحمل ، و طريقة أوجينو ، و اللولب ) فليس فيها منع شرعي من حيث هي ، و إن كانت مرغوباً عنها من حيث منافاتها للاستيلاد و تكثير الأولاد ، الذي تقدّم أنّه مطلوب شرعي ، إلّا أنّه من جهة انطباق عنوان ثانوي عليه ، و هو اختلال النظام ، الذي لا ريب في أنّ مفسدته أهمّ و أكثر من مصلحة التكثير ، لا ينبغي التوقّف في رجحانها ، بل ربّما تكون واجبة ، فإنّ رعاية مصلحة الاجتماع قد تجب ، فإذا لزم من ازدياد النسل اختلال النظام لا بدّ شرعاً من تحديده حفظاً للنظام ، غاية الأمر يكون واجباً كفائيّاً .

نعم ، لا بدّ من رعاية أن لا يوجب ذلك انقطاع النسل ، و اللّه العالم .

ص:215

ص:216

المسألة الرابعة عشر وظيفة ركّاب الطائرة

اشارة

و تقرأ فيها :

الفرع الأوّل: وظيفة مَن طاروا بشكل عمودي إلى نقطة موازية لنقطة الانطلاق ، و تجاوزوا المسافة الشرعيّة

الفرع الثاني: وظيفة مَن أدّى الصلاة في منطقة قد زالت عنها الشمس ، و سافر منها إلى منطقة اخرى لم يتحقّق فيها الزوال

الفرع الثالث: وظيفة مَن سافر من منطقة قد زالت عنها الشمس و لم يصلِّ ، إلى منطقة اخرى لم يتحقّق فيها الزوال

الفرع الرابع: وظيفة مَن سافر يوماً كاملاً إلى عدّة مناطق ، و لم يصادفه غروب الشمس فيها جميعاً

الفرع الخامس:وظيفة مَن صام في منطقة شوهد فيها الهلال ، و سافر منها إلى منطقة اخرى لم يُرَ فيها هلال شهر رمضان

الفرع السادس: مَن أفطر في منطقة لثبوت العيد فيها ، و سافر منها إلى منطقة اخرى لم يثبت العيد فيها

الفرع السابع: وظيفة مَن صام في منطقة لم يثبت العيد فيها ، و سافر منها إلى منطقة قد ثبت فيها العيد

ص:217

ص:218

من مستحدثات هذا العصر : الطائرات و ما شاكلها من وسائل النقل الفضائيّة ، و غرضنا الآن بيان وظيفة راكبيها من حيث الصلاة و الصيام ، فيقع البحث حول عدّة فروع :

1 - الفرع الأوّل : إذا تحرّكت الطائرة من محلّها مستقيمة إلى السماء ، و بعدت عنه بما يزيد عن ثمانية فراسخ ، لكنّها مسامتة لمحلّها ، فهل الواجب على ركّابها الصلاة قصراً ، و الإفطار عن الصوم ؟ أم يجب عليهم أن يتمّوا الصلاة ، و لا يجوز لهم الإفطار عن الصوم ؟

2 - الفرع الثاني : إذا سافر الإنسان بالطائرة من بلدة قد زالت الشمس فيها ، و صلّى فيها الظهر ، إلى بلدة اخرى بعيدة عنها ، في زمان قصير جدّاً ، فلمّا وصل إليها لم تكن الشمس زائلة ، ثمّ زالت ، فهل تجب عليه صلاة الظهر ثانياً ، أم لا؟

3 - الفرع الثالث : في الفرض المذكور ، لو لم يصلِّ الظهر في البلدة الاُولى ، هل له أن يكتفي بصلاة ظهر يأتي بها في البلدة الثانية ، أم لا؟ و إذا لم يصلِّ في البلدتين هل عليه قضاء ظهرين أو قضاء ظهر واحدة ؟

4 - الفرع الرابع : إذا سافر بالطائرة من بلدة قبل أن تغرب الشمس ، إلى بلدة اخرى لم تغرب الشمس فيها ، و هكذا في مدّة أربع و عشرين ساعة - مثلاً هل تجب عليه الصلاة ، أم لا؟

ص:219

5 - الفرع الخامس : إذا شرع في الصوم في بلد ، ثمّ سافر إلى بلد بعيد لم يُرَ الهلال فيه ، فهل عليه إتمام الصوم ، أم يفطر ؟

6 - الفرع السادس : إذا أصبح الشخص يوم العيد ، و سافر عن طريق الطائرة ، إلى أن انتهى إلى منطقة بعيدة ، فصادف أهلها صائمين ، فهل يجب عليه إمساك بقيّة اليوم ، أم لا؟

7 - الفرع السابع : لو أصبح الشخص صائماً ، و سارت به الطائرة إلى حيث عَيَّدُوا ، فما هي وظيفته ؟

و هناك فروع اخر ، و شقوق و فروض غير ما ذكرناه ، يظهر حكمها ممّا سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى .

حكم الفرع الأوّل :

أمّا الفرع الأوّل : فقد يقال : إنّ الظاهر عدم جواز الإفطار عليه لو كان صائماً ، و عدم قصر الصلاة ؛ لاختصاص الأدلّة بالسير في الأرض ، و كون مقصده بعيداً عن مبدأ سيره بمقدار خاصّ في الأرض .

و الوجه في ذلك : إنّ الآية الشريفة : ( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (1)مختصّة بذلك ، و لا تشمل السير في الهواء إلى نقطة مسامتة لمحلّه في الأرض .

و أمّا النصوص المحدّدة للسفر المسوّغ للقصر و الإفطار بثمانية فراسخ ، أو أربعة مع العود ، أو مسيرة يوم ، أو ما شاكل ذلك ، فإنّما هي في مقام بيان حدّ البعد ،

ص:220


1- 1) سورة النساء : الآية 101 . [1]

و ليست في مقام بيان أفراد السير كي يتمسّك بإطلاقها .

و عليه : فيشكّ في تقييد إطلاق ما دلَّ على وجوب الصوم على كلّ أحد ، و وجوب التمام عليه ، فيتمسّك بها .

و لكن يمكن أن يقال :

أوّلاً : إنّ الآية الشريفة الدالّة على أنّه لا صوم على المسافر ، و عليه عدّة أيّام اخر : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (1)مطلقة ، و مقتضى إطلاقها تعيّن الإفطار على كلّ مسافر ، و هناك نصوص كثيرة بهذا المضمون .

كخبر السكوني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه (ع) ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « إنّ اللّه عزّ و جلّ أهدى إلَيَّ و إلى امّتي هدية لم يهدها إلى أحد من الاُمم ، كرامة من اللّه لنا » ، قالوا : و ما ذلك يا رسول اللّه ؟ قال (ع) : « الإفطار في السفر ، و التقصير في الصلاة ، فمن لم يفعل ذلك فقد ردَّ على اللّه عزّ و جلّ هديته » (2).

و خبر يحيى بن أبي العلاء ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : « الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر » ، ثمّ قال : « إنّ رجلاً أتى النبيّ (ص) فقال : يا رسول اللّه (ص) ، أصوم شهر رمضان في السفر ؟ فقال: لا، فقال: يا رسول اللّه (ص) ، إنّه علَيَّ يسير ، فقال رسول الله (ص) : إنّ اللّه عزّ و جلّ تصدّق على مرضى امّتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان ، أ يحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه ! ! » (3).

ص:221


1- 1) ( ) سورة البقرة : الآيتان : 182 و 183 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 12 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 5 . [3]

و غير ذلك من النصوص المستفيضة ، بل المتواترة ، و قد عقد لها في الوسائل بابين (1)، فإذا ثبت ذلك في الإفطار ثبت في التقصير في الصلاة ؛ لما دلَّ على التلازم بين الإفطار و القصر في الصلاة .

كخبر معاوية بن وهب ، عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث قال : « هذا واحد إذا قصّرت أفطرت ، و إذا أفطرت قصّرت » (2)، و نحوه غيره .

و ثانياً : إنّ جملة من النصوص في خصوص الصلاة لها إطلاق ، فتدلّ على تعيّن القصر على كلّ مسافر ، منها : الخبران المتقدّمان آنفاً .

فتحصّل : أنّ الأظهر تعيّن الإفطار و القصر عليه في الفرض ، بل هما متعيّنان إذا كان المسير أربعة فراسخ ، كما لا يخفى .

حكم الفرع الثاني :

و أمّا الفرع الثاني : و هو ما لو زالت الشمس و صلّى صلاة الظهر ، ثمّ سافر إلى بلدة وصل إليها قبل الزوال ، فهل تجب صلاة الظهر ثانياً إذا زالت الشمس ، أم لا؟ فيه وجهان :

1 - وجوبها : لإطلاق ما دلَّ من الكتاب و السنّة على وجوبها على مَن يكون في بلد زالت الشمس عنه .

كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (3)، و الدلوك هو الزوال .

ص:222


1- 1) لاحظ : الباب الأوّل و الثاني من أبواب مَن يصحّ منه الصوم ، من كتاب الصوم من الوسائل .
2- 2) الوسائل : الباب 4 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 1 . [1]
3- 3) سورة الإسراء : الآية 78 . [2]

و صحيح زرارة ، عن أبي جعفر (ع) أنّه قال : « إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر و العصر » (1)، و غير ذلك من الأخبار المستفيضة .

2 - عدم وجوبها : لما دلَّ من النصوص على عدم وجوب صلاة سادسة في كلّ يوم ، كخبر زرارة ، قال : سألت الإمام الباقر (ع) عمّا فرض اللّه عزّ و جلّ من الصلاة ؟ فقال : « خمس صلوات في الليل و النهار » (2)، و نحوه غيره .

و لعلّ الأظهر هو الأوّل ، فإنّ نصوص عدم وجوب السادسة ، إنّما تدلّ على أنّه إنّما تجب خمس صلوات في خمسة أوقات ، منها : زوال الشمس ، فلاحظ ذيل خبر زرارة المتقدّم ، فقلت : هل سمّاهنّ اللّه و بيّنهنّ في كتابه ؟ قال : « نعم ، قال اللّه تعالى لنبيّه (ص) : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، و دلوكها : زوالها » ، فإنّ مفاده وجوب الصلاة عند كلّ وقت من الأوقات الخمسة ، و حيث إنّ تلك الأوقات في الليل و النهار - بحسب الطبع لا تتكرّر ، فقد حصر ما يجب في الليل و النهار في الخمس لا لخصوصيّة فيها ، و عليه : فإذا فرضنا زوال الشمس لشخص في يوم مرّتين كما في الفرض ، يجب عليه فردان من صلاة الظهر ، و اللّه العالم .

حكم الفرع الثالث :

الفرع الثالث : و هو أنّه في الفرض المذكور لو لم يصلِّ الظهر في البلدة الاُولى ، هل له أن يكتفي بصلاة ظهر يأتي بها في البلدة الثانية ، أم لا؟ و لو لم يصلِّ فيها أيضاً ، هل يأتي بصلاة ظهر واحدة قضاءً ، أم تجب اثنتان ؟

ص:223


1- 1) الوسائل : [1]كتاب الصلاة ، الباب 4 من أبواب المواقيت ، الحديث 1 . [2]
2- 2) الوسائل : الباب 2 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها و ما يناسبها ، الحديث 1 . [3]

و جوابه : يظهر من خلال ما ذكرناه في الفرع السابق ، فإنّه إذا كان الواجب عند كلّ زوال فرد من صلاة الظهر ، غير ما يجب عند غيره من أفراد الزوال ، فالاكتفاء بواحدة أداءً أو قضاءً ممّا لا وجه له .

نعم ، يبقى سؤال ، و هو : أنّه إذا أراد المسافر أن يصلّي صلاة الظهر التي وجبت عليه في البلدة الاُولى ، و لكن في البلدة الثانية ، فهل يصلّيها قضاءً نظراً إلى خروجه من تلك البلدة و دخوله في بلدة لم تزل الشمس فيها ، فكأنّه مضى الوقت الأوّل ، أ يصلّيها أداءً نظراً إلى أنّ وقت تلك الصلاة باقٍ ، و لذا لو رجع إلى تلك البلدة يأتي بها في وقتها ، و لعلّ الأظهر هو الثاني .

حكم الفرع الرابع :

الفرع الرابع : و هو ما لو سافر من بلد قبل غروب الشمس ، إلى بلد يختلف افقه معه ، و وصل إليه قبل غروب الشمس ، و هكذا في مدّة أربعة و عشرين ساعة .

فالظاهر : عدم وجوب شيء عليه ، و ذلك لأنّ وجوب صلاة المغرب مشروط بغروب الشمس في البلد الذي هو فيه ، كما يشهد به خبر عبيد اللّه بن زرارة ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : « صحبني رجل كان يمسي بالمغرب و يغلس بالفجر ، و كنت أنا اصلّي المغرب إذا غربت الشمس ، و اصلّي الفجر إذا استبان الفجر ، فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا ، و تغرب عنّا و هي طالعة على قوم آخرين بعد ؟ ، قال : فقلت : إنّما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، و إذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلّا ذلك ، و على اولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس عنهم » (1)، و المفروض أنّ الشرط لم يتحقّق ،

ص:224


1- 1) الوسائل : [1] كتاب الصلاة ، الباب 16 من أبواب المواقيت ، الحديث 22 .

فلا وجه للوجوب .

و دعوى : أنّ النصوص المتقدّم بعضها في الفروع السابقة ، دلّت على أنّه إنّما تجب الصلوات الخمس في كلّ يوم ، الذي هو أربعة و عشرون ساعة ، فعدم وجوب شيء عليه ينافي تلك النصوص .

مندفعة : بأنّ اليوم ليس مجرّد أربعة و عشرين ساعة ، بل هو عبارة عن تلك الساعات المترتّبة ، التي بعضها ليل و بعضها نهار ، و فيها تزول الشمس و تغرب ، مع أنّ وجوبها في كلّ يوم مشروط بشروط ، و بانتفائها ينتفي المشروط .

فالأظهر : عدم وجوب صلاة عليه .

حكم الفرع الخامس :

الفرع الخامس : و هو ما لو صام في بلد رأى فيه هلال رمضان ، و سافر إلى بلد بعيد لم يُرَ فيه الهلال .

فإن قلنا : بأنّ رؤية الهلال في بلد موجبة لوجوب الصوم على ساكني جميع البلاد ، حتّى البعيدة ، كما احتمله الشهيد (ره) (1)، و اختاره جمع منهم : صاحب الجواهر(ره) (2)، و نفى عنه البعد جماعة آخرون (3)، نظراً إلى إطلاق النصوص .

ص:225


1- 1) الدروس : 285/1 .
2- 2) جواهر الكلام : 361/16 . [1]
3- 3) منهم : العلّامة الحلّي (قدس سره) في منتهى المطلب : 592/2 ، الطبعة الحجريّة ، و المحدّث البحراني (قدس سره) في الحدائق الناضرة : 266/23 ، و حكاه في حدائقه : 268 ، عن الفيض الكاشاني (قدس سره) في الوافي ، و [2]اختاره من المتأخّرين السيّد المحقّق الخوئي (قدس سره) في كتاب الصوم من مستند العروة الوثقى : 116/2 ، و سيّدنا الاُستاذ ( دام ظلّه ) في فقه الصادق : 280/8 . [3]

كصحيح منصور بن حازم ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « صم لرؤية الهلال ، و افطر لرؤيته ، فإنّ شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه ، فاقضه » (1).

و صحيح هشام بن الحكم ، عنه (ع) أنّه قال فيمن صام تسعة و عشرين ، قال : « إن كانت له بيّنة عادلة ، على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته ، قضى يوماً » (2).

و خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع و عشرين من شعبان ؟ فقال : « لا تصم إلّا أن تراه ، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه » (3).

و بالإسناد عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه (ع) : أنّه سئل عن اليوم يقضي من شهر رمضان ؟ فقال : « لا تقضه إلّا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر » ، و قال : « لا تصم ذلك اليوم إلّا أن يقضي أهل الأمصار ، فإن فعلوا فصمه » ، و غيرها من النصوص الدالّة على ذلك بالإطلاق ، بل بعضها كالصريح في ذلك .

و لعلّ ذلك هو المراد من قوله (ع) في الدعاء : « و جعلت رؤيتها لجميع النّاس مرءاً واحداً » .

و الحاصل : فإن بنينا على كفاية الرؤية في بعض المناطق لثبوتها في المناطق الاُخرى ، و لو كانت بعيدة عنها ، فلا كلام حينئذٍ ، فإنّه يجب عليه الصوم على كلّ تقدير .

ص:226


1- 1) الوسائل : الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 4 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 13 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 2 . [3]

و أمّا إن قلنا : بأنّ رؤية الهلال في بلد لا توجب ذلك في البلد الآخر ، إلّا إذا كانا متقاربين كما عليه الأكثر ؛ للأصل ، بعد انصراف النصوص إلى غير الفرض ، لوضوح اختلاف البلدان في الطول و العرض الموجب لاختلافها في رؤية الهلال (1).

و دعوى : منع اختلاف المطالع في الربع المسكون ، إمّا لعدم كرويّة الأرض ، بل هي مسطّحة فلا تختلف المطالع حينئذٍ ، و إمّا لكونه قدراً يسيراً لا اعتداد باختلافه بالنسبة إلى علوّ السماء .

كما ترى : فإنّها خلاف الوجدان ، كيف و نرى بالعيان أنّ البلاد تختلف من حيث طلوع الشمس و القمر و غروبهما ، و هو آية اختلافها في رؤية الهلال و عدمها .

و يؤيّد ذلك بما تقدّم من النصوص من قولهم (ع) : « إنّما عليك مشرقك و مغربك ، و ليس على النّاس أن يبحثوا » (2).

و الحاصل : فإن قلنا : بعدم الكفاية ، فلا يجب عليه إتمام الصوم ، و له أن يفطر ؛ لعدم ثبوت كونه من شهر رمضان .

حكم الفرع السادس :

الفرع السادس ، و هو : ما لو أصبح الشخص مُعيِّداً ، ثمّ سارت به الطائرة إلى بلدة بعيدة ، فصادف أهلها صائمين . و هذا قد ظهر حكمه ممّا ذكرناه في الفرع السابق ، فإنّه على المسلك الأوّل ، و هو ثبوت رؤية الهلال في جميع البلاد برؤيته في بعضها ، لا يجب عليه الإمساك ، بل الواجب عليه إدامة الإفطار ، و أمّا على المسلك الآخر ، و هو عدم ثبوت الهلال برؤيته إلّا في نفس البلد ، أو فيما هو قريب منه ،

ص:227


1- 1) ( )لاحظ : فقه الصادق : 277/8 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 8 . [2]

فعليه الإمساك لو وصل قبل الزوال ، و لو وصل بعد الزوال قضى ذلك اليوم .

حكم الفرع السابع :

الفرع السابع ، و هو : ما لو أصبح الشخص صائماً ، و سارت به الطائرة إلى حيث عيّدوا .

و قد ظهر حكمه من خلال ما نقّحناه في الفرعين السالفين ، فإنّه على المسلك الأوّل : يعيّد ، و لا شيء عليه ، و على المسلك الآخر : يعيّد و يجب عليه قضاء ذلك اليوم ، فتأمّل .

ص:228

المسألة الخامسة عشر صلاة و صيام أهل القطبين

اشارة

و تقرأ فيها :

بحث حول ضروريّة وجوب الصوم و الصلاة

تصوير وظيفة ساكني القطبين :

سقوط التكليف عنهم

سقوط الصوم ، و الاكتفاء بصلاة يوم واحد و ليلة واحدة

لزوم متابعة أوطانهم أو أقرب المناطق إليهم في أوقات الصوم و الصلاة

متابعة المناطق المتوسّطة

وجوب الهجرة عليهم

ص:229

ص:230

يقع البحث في هذه المسألة حول لزوم الصلاة ، و صيام شهر رمضان في المناطق التي يكون فيها النهار ستّة أشهر ، و كيفيّة الصلاة و الصيام فيها .

وجوب الصلاة و الصيام من الضروريّات :

لا كلام و لا خلاف بين علماء الاُمّة الإسلاميّة في أنّ وجوب الصيام و الصلاة من ضروريّات الدين ، و مَن أنكره كفر .

و الآيات و الروايات المتواترة تدلّ عليه ، من قبيل: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) (1)، و : « هي عمود الدين » ، كما في خبر عيسى بن عبد اللّه (2)، و : « إن قُبِلت قُبِل سائر عمله ، و إذا ردّت رُدّ عليه سائر عمله » ، كما في خبر محمّد بن مسلم (3)، و : « لا شيء بعد المعرفة أفضل منها » ، كما في خبر معاوية بن وهب (4)، و : « صلاة فريضة خير من عشرين حجّة ، و حجّة خير من بيت ذهب يتصدّق منه حتّى يفنى » ، كما في خبر

أبي بصير (5)، و : « تاركها من غير علّة كافر » ، كما في

ص:231


1- 1) سورة العنكبوت : الآية 45 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 7 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 13 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 10 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 1 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 10 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 4 . [5]

خبر عبيد بن زرارة (1)، و : « من تركها متعمّداً قد برئت منه ملّة الإسلام » ، كما في خبر القدّاح (2)، إلى غير ذلك من التعابير الكاشفة عن اهتمام الشارع بها .

و أيضاً : « الصوم جنّة » ، كما في

خبر زرارة (3)، و : « ممّا بُني الإسلام عليه » ، كما في جملة من النصوص (4)، و قد عقد في الوسائل باباً (5)ذكر فيه الأخبار الدالّة على أنّ مَن أفطر في شهر رمضان مستحلاً يقتل .

مواقيت الصلاة و الصيام :

قد فرض اللّه تعالى في كلّ يوم و ليلة خمس صلوات ، و بيّن نبيّه الأكرم (ص) أوقاتها فيهما ، و هي : من طلوع الفجر إلى شروق الشمس للصبح ، و من زوالها إلى غروب الشمس للظهرين ، و من غروب الشمس إلى نصف الليل أو طلوع الفجر للعشاءين ، كما تشهد بذلك كثير من النصوص (6).

و أيضاً فرض اللّه تعالى صوم شهر هلالي من السنة ، و بيّنه في القرآن أنّه شهر رمضان (7)، و بيّن رسوله (ص) أنّه تسعة و عشرون يوماً أو ثلاثون (8).

ص:232


1- 1) الوسائل : الباب 11 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 4 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 11 من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث 5 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 2 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 2 .
5- 5) و هو الباب الثاني من أبواب أحكام شهر رمضان .
6- 6) لاحظ : الوسائل : الباب 10 من أبواب المواقيت . [4]
7- 7) في قوله تعالى : (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
8- 8) )الوسائل : [5]كتاب الصوم ، الباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث 2 ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، [6] قال : «إنّ رسول اللّه (ص) قال : إنّ الشهر كذا و كذا و كذا ، يلصق كفّيه ل لا و يبسطهما ، ثمّ قال : و هكذا و هكذا و هكذا ، ثمّ يقبض إصبعاً واحدة في آخر بسطه بيديه ، و هي الإبهام» . و نحوه غيره ، فلاحظ الأحاديث : 15 و 16 18 و 24 من الباب المذكور .

و من الواضح : أنّ بيان أوقات الصلوات الخمس في اليوم و الليلة ، و بيان شهر رمضان في السنة ، إنّما هو بلحاظ القسم الأعظم من الكرة الأرضيّة ، الذي كان في عصر الشارع الأقدس مسكوناً .

و أمّا المناطق التي تكون السنة فيها يوماً و ليلة ، نصفها نهار و نصفها ليل ، و المناطق التي يكون ليلها جزءاً يسيراً ، أو نهارها كذلك ، لم تكن تسكن ، و لم يبيّن ما يجب على ساكنيها من الصلاة و الصيام .

وظيفة ساكني القطبين :

و لهذا اختلفت كلمات القوم في تحديد وظيفتهم ، و ذكروا وجوهاً و احتمالات :

1 - الاحتمال الأوّل : سقوط التكليف بالصلاة و الصيام عنهم .

2 - الاحتمال الثاني : سقوط الصوم ، و كون الواجب من الصلاة : صلاة يوم واحد و ليلة واحدة فقط .

3 - الاحتمال الثالث : كون المدار : أقرب البلاد المعتدلة إليهم ، أو : بلدهم الذي كانوا متوطّنين فيه سابقاً ، بأن يقدروا أيّامهم و لياليهم و أشهرهم بحساب أوقات ذلك البلد الذي تتميّز فيه الأوقات ، و يتّسع كلّ من ليله و نهاره لأداء الوظيفة من الصلاة و الصيام .

4 - الاحتمال الرابع : كون المدار على : البلدان المتعارفة المتوسّطة .

5 - الاحتمال الخامس : وجوب الهجرة إلى البلاد التي يتمكّن فيها من الصلاة و الصيام .

ص:233

أمّا الوجه الأوّل : فهو مقطوع البطلان ، نظراً إلى ما نرى من اهتمام الشارع بهذين الفرضين ، لا سيّما و قد دلّت النصوص على أنّ الصلاة لا تسقط بحال (1).

و كذلك الوجه الثاني : فإنّ المفروض فيه سقوط الصوم ، لعدم الوقت و عدم القدرة ، و هو ممّا تأباه النصوص و الآيات الدالّة على وجوبه على كلّ أحد ، مع أنّ وجوب صلاة يوم و ليلة ممنوع بالنسبة إلى الظهرين ؛ إذ لا دلوك في الفرض كي تجبان عنده .

و الوجه الثالث و الرابع : يدفعهما أنّ الشارع الأقدس أوجبهما في أوقات خاصّة ، و هي في البلدان المتعارفة أو المتوسّطة غير ما يفرض في مناطق القطبين ، و ثبوتها على نحو خاصّ لا دليل عليه .

لا يقال : إنّه يمكن القول بالوجوب ، و أنّ المدار على الموطن الأصلي ، للاستصحاب .

فإنّه يتوجّه عليه : إنّه بعد انتفاء شرائط الوجوب يقيناً ، لا يجري الاستصحاب .

و على الجملة : فالقول بسقوط التكليف بهما مقطوع البطلان ، على حسب ما نرى من اهتمام الشارع بهما ، سيّما الصلاة التي لا تسقط بحال .

و القول بوجوبهما بنحو خاصّ ، قول بغير دليل ، و أدلّة البابين لا تشمل هذه الفروض .

و عليه : فيتعيّن الوجه الخامس ، و يمكن أن يستشهد له بخبر الحسين بن

ص:234


1- 1) من الكبريات المشهورة عند الفقهاء ، و التي يكثر دورانها على الألسنة : « أنّ الصلاة لا تسقط بحال » ، و هي بهذا اللسان لا وجود لها في النصوص ، و إنّما هي متصيدة ممّا ورد بشأن المستحاضة : « لا تدع الصلاة على كلّ حال » ، فراجع الوسائل : الباب 1 من أبواب الاستحاضة ، الحديث 5 .

أبي العلاء ، عن أبي عبد اللّه (ع) : إنّ رجلاً أتى أبا جعفر (ع) فقال : أصلحك اللّه ، إنّا نتّجر إلى هذه الجبال ، فنأتي منها على أمكنة لا نقدر أن نصلّي إلّا على الثلج ؟ فقال : « أ فلا ترضى أن تكون مثل فلان يرضى بالدون ؟ » ، ثمّ قال : « لا تطلب التجارة في أرض لا تستطيع أن تصلّي إلّا على الثلج » (1).

فإنّه إذا كان عدم التمكّن من الصلاة على الثلج ، التي يفقد فيها بعض ما يعتبر في الصلاة ، موجباً للهجرة ، و عدم المقام في ذلك المحلّ ، فعدم التمكّن من إتيان الصلاة في أوقاتها الخاصّة أوْلى بذلك .

هذا ، و لا يخفى أنّ ما ذكروه في المسألة من وجوب الهجرة ، إنّما هو فيما إذا لم يترتّب عليها محذور ، و إلّا كما لو فرضنا لزوم العسر و الحرج منها ، أو كانت مستلزمة لاختلال النظام لا تجب ؛ إذ ما من حكم إلّا و هو يرتفع بقاعدة الحرج .

و أيضاً من المعلوم : أنَّ حفظ مصلحة النظام أقوى من مصالح الأحكام الاُخر ، و عليه : فيتعيّن اختيار أحد القولين : الثالث أو الرابع ، و اللّه العالم .

ص:235


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 68 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .

ص:236

المسألة السادسة عشر بيع المذياع و التلفزيون

اشارة

و تقرأ فيها :

الموقف الفقهي من بيع ( المذياع ) وضعاً و تكليفاً

بحث رجالي حول ( ابن شعبة ) و كتابه ( تحف العقول )

بحث رجالي حول كتابي: ( دعائم الإسلام ) و ( فقه الرضا )

حكم بيع ( المذياع ) على مَن لا ينتفع به إلّا في الحرام

الموقف الفقهي من بيع ( التلفزيون )

ص:237

ص:238

من الموضوعات المستحدثة : المذياع ، و قد شاع و ذاع ، بحيث يعدّ الآن من أوليات الوسائل ، التي يستخدمها الإنسان في توفير راحته و طمأنينته في الحياة ، و له منافع محلّلة كاستماع القرآن ، و الأخبار ، و ما شاكل ، كما له منافع محرّمة ، كالانتفاع به في الملاهي ؛ و لذلك وقع الكلام في المعاملة الواقعة عليه ، و أنّها جائزة أم لا، و أنّ ما يؤخذ بإزائه حلال أم حرام ، و تنقيح القول فيه بالبحث في موارد :

1 - الأوّل : في نفوذ المعاملة الواقعة عليه ، و عدمه .

2 - الثاني : في جواز المعاملة عليه و حرمتها تكليفاً .

3 - الثالث : في اشتراط قصد المنفعة المحلّلة - على فرض النفوذ أو عدم قصد المنفعة المحرّمة ، أو عدم اشتراط شيء من ذلك .

4 - الرابع : في حكم بيعه على مَن يعلم بأنّه لا ينتفع به إلّا في الحرام .

الحكم الوضعي لبيع المذياع :

أمّا المورد الأوّل : فقد استدلّ لعدم صحّة بيعه بوجوه :

أحدها : إنّه من آلات اللهو ، و تدلّ على بطلان بيعها امور :

1 - الإجماع الذي ادّعاه صاحب المستند (1)، و الظاهر : أنّه كذلك .

ص:239


1- 1) مستند الشيعة : 160/18 . [1]

2 - الخبر المروي عن تفسير أبي الفتوح ، عن أبي امامة ، عن رسول اللّه (ص) ، أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى بعثني هدى و رحمة للعالمين ، و أمرني أن أمحو المزامير و الأوتار و امور الجاهليّة ، إلى أن قال : إنّ آلات المزامير ، شراؤها ، و بيعها ، و ثمنها ، و التجارة بها ، حرام » (1).

3 - قول الإمام الصادق (ع) في خبر تحف العقول الآتي : « و كذلك - أي: يحرم بيعه و شراؤه كلّ مبيع ملهوّ به » (2).

و لكنّ الإنصاف بأنّ المتيقّن من معقد الإجماع : عدم جواز بيع الآلات المعدّة للملاهي ، كالمزامير و المعازف و الأوتار و ما شاكل ، التي تنحصر فائدتها بالانتفاع بها في اللهو ، الذي لا إشكال و لا كلام نصّاً و فتوى في حرمته ، و عدم جواز المعاملة في هذا المورد إنّما يكون على وفق القاعدة ؛ إذ الشيء مع عدم وجود المنفعة المحلّلة له لا يكون مالاً شرعاً ، فلا تصدق حقيقة البيع ، و هي الإعطاء لا مجّاناً ، بل بعوض ، فإنّ إعطاء الشيء في مقابل ما لا منفعة فيه يكون مجّانيّاً و بلا عوض ، و لا تشمله سائر العناوين ، كالتجارة عن تراضٍ .

و أمّا الآلات المشتركة بين ذلك ، و بين الاستعمال في عمل محلّل ، كالمذياع ، فإنّه ينتفع به في وجوه الصلاح ، كما أنّه ينتفع به في وجوه الفساد ، فلا تكون مشمولة لمعقد الإجماع .

و أمّا الخبر المروي عن التفسير ، فهو ضعيف السند لإرساله ، و لم يثبت استناد الأصحاب إليه كي يوجب ذلك جبر ضعف السند .

ص:240


1- 1) المستدرك : الباب 79 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 16 . [1]
2- 2) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .

مع أنّ مورده الآلة المعدّة للهو خاصّة ، و قد عرفت أنّ فساد المعاملة الواقعة عليها ، ممّا اتّفق عليه النصّ و الفتوى .

و أمّا خبر تحف العقول ، فسيأتي الكلام حوله مفصّلاً .

الوجه الثاني : إنّ خبر الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة ، الذي رواه في كتاب تحف العقول ، عن إمامنا الصادق (ع) ، و رويَ عن رسالة ( المحكم و المتشابه ) للسيّد (ره) ، يدلّ عليه ، فإنّ من ضمن عباراته : قوله (ع) : « و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء ، فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة : أكله و شربه ، أو كسبه ، أو نكاحه ، أو ملكه ، أو إمساكه ، أو هبته ، أو عاريته ، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ، نظير البيع بالربا ، أو البيع للميتة ، أو الدم ، أو لحم الخنزير ، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير ، أو جلودها ، أو الخمر ، أو شيء من وجوه النجس ، فهذا كلّه حرام و محرّم ؛ لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله ، و شربه ، و لبسه ، و ملكه ، و إمساكه ، و التقلّب فيه ، فجميع تقلبه في ذلك حرام » (1).

و الظاهر من هذه العبارات حرمة بيع ما فيه الفساد و لو بوجه من وجوهه ، و إن كانت فيه جهة صلاح ، فتشمل بيع المذياع ، و تدلّ على حرمته .

و فيه :

أوّلاً : إنّه ضعيف السند ؛ لأنّ الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة ، و إن كان جليل القدر ، عظيم المنزلة ، و كتابه هذا جليل ، معتمد عليه عند الأصحاب ، كما صرّح بذلك كلّه أئمّة الفنّ (2)، إلّا أنّه لم يروِ هذا الخبر مسنداً ، بل أرسله عن الإمام

ص:241


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
2- 2) قال الشيخ الحرّ العاملي (قدس سره) في أمل الآمل : 74/2 : « [2] الشيخ أبو محمّد ، الحسن بن عليّ ل لا ابن شعبة ، فاضل ، محدّث ، جليل ، له كتاب تحف العقول عن آل الرسول ، حسن ، كثير الفوائد ، مشهور» .

الصادق (ع) ، فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد .

و دعوى : أنّ نقل هذا الشيخ الجليل ، عن الرواة المحذوفين ، قرينة على وثاقتهم .

مندفعة : بأنّ جلالته تمنع عن كذبه ، لاعن نقله عن غير الثقة .

و دعوى : إنّ آثار الصدق منه ظاهرة .

مندفعة بأنّه لم يظهر فيه من آثار الصدق ، سوى اضطراب متنه ، و تكرار جمله .

و أمّا طريقهُ الآخر : فهو و إن كان مسنداً ، إلّا أنّه من جهة وقوع أحمد بن يوسف ، و الحسين بن عليّ بن أبي حمزة ، و أبيه ، في سلسلة سنده ، و هم من الضعفاء ، لا يعتمد عليه .

و دعوى : انجبار ضعفه بعمل المشهور ، مضافاً إلى موافقة مضمونه لمضمون جملة من الروايات الصحيحة .

مندفعة : بأنّ عمل المتقدّمين من الأصحاب ، الذي هو الجابر لضعف السند ، غير ثابت ، و عمل المتأخّرين غير نافع ، بل يمكن منع عملهم به ، فإنّ فتاوى جلّهم في المسائل المتفرّقة لا تطابق بعض جمل الخبر ؛ إذ بعض جمله تدلّ على حرمة بيع النجس مطلقاً ، مع أنّه لم يفتِ به أحد ، و الخبر الضعيف لا يصير حجّة بالموافقة لما هو حجّة .

و ثانياً : إنّه لو تمّ سنده و دلالته ، لدلّ على حرمة بيعه ، و حرمة المعاملة لا تستلزم فسادها ، كما حقّقناه في الجزء الثاني من كتابنا ( زبدة الاُصول ) ، و في الجزء الأوّل

ص:242

من كتابنا منهاج الفقاهة ، و الجزء الرابع عشر من كتابنا ( فقه الصادق ) (1).

و ثالثاً : إنّ دلالة هذه الجملة غير تامّة لوجوه :

1 - أوّلاً : إنّ الظاهر ، و لا أقلّ من المحتمل ، كون المشار إليه بقوله (ع) : « فهذا كلّه حرام و محرّم » ، هو بيع المذكورات ، و قد علّل هذا الحكم بحرمة جميع التقلّبات و التصرّفات فيها ، فيكون المستفاد حينئذٍ : أنّ علّة المنع هي حرمة جميع التصرّفات ، فيختصّ هذا الحكم بما يكون ممحضاً في الفساد ؛ لأنّ العلّة تخصّص كما تعمّم ، و لا ينافي ذلك قوله (ع) : « من جهة أكله . . . » ، فإنّه على ذلك يحمل على إرادة ما كانت فائدته العقلائيّة منحصرة في الأكل ، كاللحم .

2 - و ثانياً : إنّ هذه لو تمّت دلالتها على حرمة بيع ما فيه وجه من وجوه الفساد ، لوقع التعارض بينها و بين ما تقدّمها من الجمل ، و هي : « و كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات ، فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه » ، الدالّة على جواز بيع ما فيه وجه من وجوه الصلاح .

3 - و ثالثاً : إنّ العبارات المذكورة أواخر الحديث تدلّ على الجواز ، و تفسير المنع المزبور بما ليس فيه وجه من وجوه الصلاح ، فتأمّل .

الوجه الثالث : إنّ خبر دعائم الإسلام ، عن مولانا الصادق (ع) : « الحلال من البيوع : كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب ، و غير ذلك ، ممّا هو قوام للنّاس و صلاح ، و مباح لهم الانتفاع به ، و ما كان محرّماً أصله ، منهيّاً عنه ، لم يجز بيعه و لا شراؤه » (2)دالّ على ذلك .

ص:243


1- 1) لاحظ ما حقّقه الاُستاذ ( دام ظلّه ) في موسوعته الفقهيّة فقه الصادق : 27/14 ، و [1]كذلك في منهاج الفقاهة : 23/1 ، و [2]كذلك في زبدة الاُصول : 174/3 . [3]
2- 2) مستدرك الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 2 . [4]

و فيه : إنّ مؤلّف ذلك الكتاب و هو أبو حنيفة ، النعمان بن محمّد بن منصور التميمي المغربي ، قاضي مصر ، و إن تبصّر بعد ما كان مالكيّاً ، فصار إماميّاً ، إلّا أنّ كونه ثقة لم يثبت ، و لم يصرّح به أحد ، أضف إلى ذلك أنّه مرسل غير مجبور بشيء .

و اقتصاره فيه على الثابت الصحيح ، ممّا روي عن المعصومين (ع) ، كما صرّح به (1)، لا يكون توثيقاً إجماليّاً للرواة المحذوفين ، و ثبوت الصحّة عنده لا يلزم منه ثبوتها عندنا ؛ لاحتمال استناده إلى القرائن الموجبة لعلمه بالصحّة ، غير الموجبة عندنا للعلم لو اطّلعنا عليها .

مع أنّ الظاهر منه كون الموضوع ما فيه الفساد محضاً ، و كونه منهيّاً عنه بقول مطلق ، و لا يشمل ما فيه الجهتان ، كالمذياع .

الوجه الرابع : ما عن الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا (ع) : « و كلّ أمر يكون فيه الفساد ، ممّا قد نهي عنه ، من جهة أكله ، و شربه ، و لبسه ، و نكاحه ، و إمساكه لوجه الفساد . . . فحرام » (2)، أي: بيعه ، بقرينة ما قبله .

و فيه : أنّ الظاهر كون ذلك الكتاب رسالة عمليّة لفقيه ، و قد ذكرت فيها الفتاوى بعنوان الروايات .

و قد استدلّ لاعتباره بوجوه بيّنة الضعف ، عمدتها : أنّ أوّل من اطّلع على هذا الكتاب ، هو السيّد أمير حسين طاب ثراه ، و هو أخبر بكون هذا الكتاب

ص:244


1- 1) ( )قال في مقدّمة كتابه دعائم الإسلام : 2 : و [1]قد رأينا و باللّه التوفيق ، عند ظهور ما ذكرناه ، أن نبسط كتاباً جامعاً مختصراً ، يسهل حفظه ، و يقرب مأخذه ، و يغني ما فيه من جمل الأقاويل عن الاسهاب و التطويل ، نقتصر فيه على الثابت الصحيح ، ممّا رويناه عن الأئمّة من أهل بيت رسول اللّه (ص) أجمعين ، من جملة ما اختلفت فيه الرواة عنهم .
2- 2) مستدرك الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 . [2]

للإمام (ع) ، فيصدق في إخباره ، لكونه ثقة .

و لكن يرد عليه : أنّ إخباره بذلك ، إمّا أن يكون لإخبار ثقتين عدلين من أهل قم للسيّد بكون الكتاب له (ع) ، أو لحصول العلم له من القرائن ، و شيء منهما لا يصلح لإدراج الخبر في الأخبار المعتبرة .

أمّا الثاني : فلأنّ أدلّة حجّية الخبر مختصّة بالخبر الحسّي ، و لا تشمل ما لو كان المخبر عنه حدسيّاً ، كما في الفرض ، على ما حقّق في محلّه (1).

و أمّا الأوّل : فلأنّ إخبار الثقتين ، إمّا أن يكون لحصول العلم لهما من القرائن ، فالكلام فيه هو الكلام في إخبار السيّد نفسه ، و إمّا أن يكون لسماعهما من غيرهما ، فغاية ما يكون حينئذٍ ، هو كون الخبر من الأخبار المرسلة غير المعتبرة .

و جمع من الأصحاب كالمجلسيين 0 و غيرهما ، و إن عملوا به ، إلّا أنّ مستندهم في العمل هي الوجوه الفاسدة ، و مثل هذا العمل لا سيّما الواقع من متأخّري المتأخّرين لا يصلح للجبر ، و لتمام الكلام في ذلك محلّ آخر .

الوجه الخامس : النبوي المشهور : « إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه » (2).

و فيه :

أوّلاً : إنّ هذا النبوي لا أصل له في اصول العامّة و الخاصّة ، فهو لم يثبت كونه رواية ، و الموجود في اصول العامّة هكذا : « إنّ اللّه إن حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه » (3)، و هو مضافاً إلى ضعف سنده ، غير مربوط بالمقام .

ص:245


1- 1) زبدة الاُصول : 180/4 . [1]
2- 2) عوالي اللئالي : 110/1 . [2]
3- 3) مسند أحمد : 247/1 . [3] السنن الكبرى : 13/6 .

و ثانياً : إنّ الظاهر من تحريم الشيء بقول مطلق : تحريم جميع منافعه ، و لا يشمل ما حرّمت بعض منافعه .

فالمتحصّل : عدم وجود دليل على بطلان بيع المذياع ، فيتعيّن الرجوع إلى العمومات القاضية بالصحّة و النفوذ .

الحكم التكليفي لبيع المذياع :

و أمّا المورد الثاني : فمقتضى القواعد و الاُصول جوازه تكليفاً .

و استدلّ لعدم الجواز بما تقدّم من النصوص .

و اورد عليه : بأنّ النهي عن المعاملة ظاهر في الإرشاد إلى الفساد ، و لا تستفاد منه الحرمة النفسيّة ، فالنصوص المتقدّمة دالّة على عدم النفوذ لا الحرمة .

و فيه : إنّ النهي عن المعاملة تارةً يتعلّق بالآثار ، و التصرّف في الثمن أو المثمّن ، و اخرى يتعلّق بعنوان آخر منطبق عليها ، و ثالثة : يتعلّق بها .

و لا ريب في دلالة القسم الأوّل على الفساد ؛ إذ لا وجه للمنع عن التصرّف في الثمن أو المثمّن ، سوى عدم صحّة المعاملة ، و بقاء المبيع على ملك مالكه ، و لا يستفاد منه الحكم التكليفي .

كما لا ريب في عدم استفادة الفساد من القسم الثاني ، بل هو ظاهر في الحرمة النفسيّة .

و أمّا الثالث : فإن كان بيان الحكم بصيغة النهي ، و تعلّق بنفس المعاملة ، كان ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد ، و إن كان بعنوان : « لا يجوز » ، أو « يحرم » ، فهو ظاهر في الحرمة النفسيّة ، دون الفساد .

و على هذا فأكثر ما تقدّم في المورد الأوّل من النصوص ، يدلّ على الحرمة

ص:246

النفسيّة دون الفساد ، و لكن قد عرفت ضعف أسنادها ، و وهن دلالاتها ، فراجع .

فالمتحصّل : جواز بيع المذياع في الجملة ، وضعاً و تكليفاً .

اعتبار قصد المنفعة المحلّلة أو شرطها و عدمهما:

و أمّا المورد الثالث : فمحتملات المسألة و وجوهها ، خمسة :

1 - اعتبار اشتراط المنفعة المحلّلة .

2 - اعتبار قصدها ، و قد ذهب إليه المحقّق النائيني (ره) في نظير المسألة (1).

3 - اعتبار عدم قصد المنفعة المحرّمة ، و قد ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) في نظير المسألة (2).

4 - اعتبار الانتفاع بالمنفعة المحلّلة خارجاً .

5 - عدم اعتبار شيء من هذه القيود ، و الظاهر : أنّه الأظهر .

و الدليل على ما اخترناه : أنّ المنفعة المحلّلة لا ريب في كونها منشئاً لمالية المذياع ، فهو مال ، فيصحّ بيعه ، و إن لم تقصد المنفعة المحلّلة ، بل و إن قصدت المحرّمة ؛ إذ المبادلة إنّما تكون بين المالين ، و ليست المنفعة طرفاً للمعاملة ، كي يقال : إنّ دفع الثمن بإزاء المحرّمة منها أكل للمال بالباطل ، بل الطرف نفس ما فيه المنفعة ، و قصد المنفعة المحرّمة لا يوجب سلب المالية عنه حتّى لا يصح لذلك ، و بعبارة اخرى : وجود المنفعة الواقعيّة موجب لكون هذا الشيء مالاً ، و إن قصد البائع المنفعة المحرّمة ، فيصحّ بيعه لذلك .

ص:247


1- 1) لاحظ : منية الطالب : 29/1 .
2- 2) لعلّ ذلك يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) من خلال ما أفاده في مسألة بيع العنب على من يعمله خمراً ، فلاحظ المكاسب : 129/1 . [1]

نعم ، لو اشترط استيفاء المنفعة المحرّمة خارجاً ، و إن لم يقصد بالقصد المعاوضي تلك المنفعة ، يكون الشرط فاسداً ، و على القول بمفسديّة الشرط الفاسد للبيع يبطل البيع لذلك ، لكنّ هذا كلام آخر لا ربط له بالمقام ، و قد حقّقنا فساده في نفسه في الجزء السادس من كتابنا ( منهاج الفقاهة ) ، و الجزء الثامن عشر من ( فقه الصادق ) (1).

بل لو قصد المنفعة المحلّلة بالقصد المعاوضي ، بأن دفع الثمن بإزائها بطل البيع ؛ لعدم كون المبيع عيناً .

و استدلّ للقول الأوّل :

بأنّ المال إنّما يبذل بإزاء المنافع ؛ لأنّها مناط المالية ، فإذا لم يشترط المنفعة المحلّلة ، يقع جزء من الثمن بإزاء المحرّمة ، فيكون أكلاً للمال بالباطل .

و فيه : إنّ المال في البيع يبذل بإزاء المال ، لا المالية ، و قد عرفت أنّه إذا بذل المال بإزاء المنفعة بطل البيع ، و وجود المنفعة المحلّلة منشأ لصيرورة العين مالاً ، و لا يعتبر فيه اشتراط المحلّلة .

و استدلّ المحقّق النائيني (ره) للثاني : بأنّ عناوين الأشياء تكون مناط ماليّتها ، لا الجسم المطلق ، الذي هو المادة المشتركة بين ما له قيمة و ما لا قيمة له ، فإذا فرضنا أنّ الشيء لا ماليّة له إلّا باعتبار منفعة خاصّة ، فكما يجب تعيين العنوان في المبيع ، و لا يصحّ بيع القدر المشترك ، كذلك يجب تعيين العنوان الذي يكون الشيء مالاً باعتباره ، و بقصد المنفعة المحلّلة .

و فيه : إنّه لا ريب في اعتبار كون المبيع مقصوداً و معلوماً و مالاً ، و لكن يكفي

ص:248


1- 1) فقه الصادق : 48/18 . [1]منهاج الفقاهة : 331/6 . [2]

في انتزاع المالية وجود المنفعة المحلّلة الواقعيّة ، و عليه : فبما أنّ المبيع هو العين ، و المنفعة ليست ممّا يقابله الثمن ، فلا يعتبر زائداً على قصد عنوان المبيع و كونه مالاً ، قصد المنفعة ؛ لعدم تقوّم الماليّة بقصدها ، بل هي تابعة لوجودها الواقعي .

و استدلّ القول للثالث بوجهين :

الوجه الأوّل : إنّ قصد المنفعة المحرّمة ، أو اشتراطها ، مرجعه إلى تعيين المنفعة المحرّمة عليه ، فيكون أكل الثمن أكلاً بالباطل ؛ لأنّ حقيقة النفع العائد إلى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرّم .

و فيه : إنّ منفعة الشيء هي الحيثيّة القائمة به ، الموجودة فيه ، فمثلاً : منفعة الدار ليست ما هو فعل الساكن ، فإنّه من أعراضه ، لا من شئون الدار ، بل حيثيّة كونها مسكناً ، و باستيفاء الساكن تخرج من القوّة إلى الفعليّة ، و هذه الحيثيّة منشأ لانتزاع الماليّة من الدار ، و تكون مالاً يبذل بإزائها المال ، و عليه : فتعيين المنفعة المحرّمة عليه لا يوجب وقوع الثمن بازائها في البيع ، كي يكون أكلاً بالباطل .

الوجه الثاني : إنّ جملة من النصوص (1)تدلّ على تحريم بيع الجارية المغنية ، و لا وجه له ، سوى كون الغناء مقصوداً في ذلك البيع ، فلو اشترى المذياع لمنفعته المحرّمة بطل البيع .

ص:249


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 3 . عن إسحاق بن يعقوب ، في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري ، بخط صاحب الزمان (ع) : «و أمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلّا لما طاب و طهر، و ثمن المغنية حرام » . و الحديث 4 : عن إبراهيم بن أبي البلاد ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل (ع) : جعلت فداك ، إنّ رجلاً من مواليك عنده جوارٍ مغنيات ، قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار ، و قد جعل لك ثلثها ، فقال : «لا حاجة لى فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت» .

و فيه :

أوّلاً : إنّ تلك النصوص لم يعمل بها الأصحاب ، و ذلك يظهر بعد بيان أمرين :

1 - إنّ صفة غناء الجارية لها منفعتان : محلّلة و محرّمة ، بناءً على ما هو المعروف من أنّ كسب المغنيات ، اللاتي تدعى إلى الأعراس ، ليس به بأس ، كما نطقت به النصوص (1).

2 - إنّ بعض النصوص (2)صريح في جواز بيع المغنية و شرائها ، إذا كان يطلب بها الرزق لا سوى ذلك ، و معلوم أنّ التاجر الذي يشتري المغنيّات و يبيعهنّ ، إنّما يوقع المعاملة عليهنّ بما هنّ مغنّيات ، و على ذلك فبعد تقييد تلك النصوص بهذا النصّ ، تختصّ تلك النصوص بما إذا بيعت المغنية بداعي سماع الغناء ، و الانتفاع بها في الحرام ، و في هذا الفرض بالخصوص لم يفتِ أحد بالفساد ، لا سيّما بعد فرض عدم كون صفة الغناء ممّا لها منفعة محرّمة خاصّة ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذا النصّ معارض مع تلك النصوص ، لتضمّنه جواز بيع التاجر المغنّية ، و إن كان المشتري يشتريها بداعي الانتفاع بغنائها على وجه محرّم ، و البائع كان عالماً بذلك ، و الجمع العرفي يقتضي حمل تلك النصوص على الكراهة .

و ثانياً : فرق بين المقام و تلك المسألة ، فإنّه في بيع المغنية إنّما تؤخذ تلك الصفة

ص:250


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 . عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) عن كسب المغنيات ؟ فقال : «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تُدعى إلى الأعراس ليس به بأس» ، و نحوه الحديث 2 و 3 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب التجارة ، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 . عن عبد اللّه بن الحسن الدينوري ، قال : قلت لأبي الحسن (ع) : جعلت فداك ، فأشتري المغنية أو الجارية ، تحسن أن تغني ، اريد بها الرزق لا سوى ذلك ، قال : «اشتر و بع» .

المتموّلة لدى العرف عنواناً للمبيع ، فيقع مقدار من الثمن بإزائها ، و بعبارة اخرى : تكون هي من عناوين المبيع ، و هذا بخلاف هذه المسألة ، و هي ما لو قصد التصرّف في المبيع على الوجه المحرّم ، الذي لا يوجب صفة في المبيع ، ليقع مقدار من الثمن بإزائها .

فتحصّل : أنّ الأظهر جواز البيع ، و إن قصدَ المنفعة المحرّمة .

حكم بيع المذياع على مَن لا ينتفع به إلّا في الحرام :

و أمّا المورد الرابع : فقد استدلّ لعدم جواز بيعه في هذه الصورة خاصّة ، بوجوه :

الوجه الأول : عموم النهي عن التعاون على الإثم و العدوان في الآية الكريمة : ( وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ ) (1)، بتقريب : أنّ البيع ممّن يعلم بصرف المبيع في الحرام ، إعانة له على الإثم ، فتشمله الآية الشريفة .

و أُورد عليه : بأنّ النهي في الآية الشريفة اريد به الحكم التنزيهي ، بقرينة الأمر بالإعانة على البرّ و التقوى ، الذي هو ليس للإلزام قطعاً .

و لكن يمكن دفعه : بأنّ جواز فعل ما نهى عنه الشارع الأقدس ، يتوقّف عند العقل على ورود ترخيص من الشارع فيه ، فمع عدمه يحكم العقل بلزوم المتابعة ، و مجرّد المقابلة بأمر غير إلزامي ، لا يصلح قرينة على ذلك ، كما لا يخفى .

و الحقّ في الإيراد على الاستدلال بالآية الشريفة : أنّ المنهيّ عنه هو التعاون ، لا الإعانة ، و هو من باب التفاعل ، و هو عبارة عن اجتماع عدّة من الأشخاص

ص:251


1- 1) سورة المائدة : الآية 2 . [1]

لإيجاد أمر ، و يكون ذلك صادراً عن جميعهم ، كأن يجتمعوا على قتل نفس محترمة بأن يقتلوه جميعاً ، و أمّا الإعانة ، التي هي من باب الأفعال ، فهي عبارة عن إيجاد مقدّمات فعل الغير ، مع استقلال ذلك الغير في صدور الحرام و الإثم منه ، فحرمة التعاون التي هي مدلول الآية ، لا تستلزم حرمة الإعانة على الإثم .

و الاستدلال لحرمتها بالإجماع فاسد ؛ لعدم حجّية المنقول منه ، مع أنّه يحتمل استناد المجمعين إلى سائر الوجوه المذكورة ، من الآية الشريفة و غيرها .

و أدلّة النهي عن المنكر ، ستعرف تقريب الاستدلال بها ، و الجواب عنه .

فالأظهر : عدم حرمة الإعانة على الإثم ؛ لعدم الدليل عليها ، و الأصل عدمها ، إلّا ما خرج بالدليل ، كإعانة الظالمين ، و إعانة أعوانهم ، اللتين لا شبهة في حرمتهما نصّاً و فتوى .

و أضف إلى ذلك كلّه ، أنّه يمكن أن يقال : بأنّ النصوص الواردة في بيع العنب ، الدالّة على جواز بيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً .

كصحيح الحلبي ، قال : سألت أبا عبد اللّه الصادق (ع) ، عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراماً ؟ فقال (ع) : « لا بأس به ، تبيعه حلالاً ليجعله حراماً ، فأبعده اللّه و أسحقه » (1).

و صحيح رفاعة ، قال : سئل أبو عبد اللّه (ع) و أنا حاضر ، عن بيع العصير ممّن يخمّره ؟ فقال (ع) : « حلال ، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً » (2).

و حسن ابن اذينة ، قال : كتبت إلى أبي عبد اللّه (ع) أسأله عن رجل له كرم ، أ يبيع

ص:252


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب التجارة ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 8 .

العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً ؟ فقال (ع) : « إنّما باعه حلالاً في الابان الذي يحلّ شربه أو أكله ، فلا بأس ببيعه » (1)، و نحوها غيرها .

تدلّ على جواز الإعانة بعد إلغاء الخصوصيّة .

و لا تعارض هذه النصوص ، النصوص الدالّة على حرمة بيع الخشب ممّن يتّخذه صلباناً ، كحسن ابن اذينة ، قال : كتبتُ إلى أبي عبد اللّه (ع) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً ؟ قال (ع) : « لا» (2)، و نحوه غيره .

فإنّ هذه تختصّ بموردها ؛ لما علم من الشرع من الاهتمام بالتجنّب عن الشرك بأي نحو أمكن ، قال اللّه تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ) (3).

و يؤيّد ما ذكرناه من الجمع صدر حسن ابن اذينة (4): عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ منه برابط ؟ فقال (ع) : « لا بأس به » ، فإنّه شاهد الفصل ، لتفصيله بين الأصنام و البرابط ، فالجمع بين نصوص العنب ، و دليل حرمة الإعانة ، على فرض وجوده ، يقتضي الالتزام بعدم الحرمة في المقام و أمثاله .

الوجه الثاني : إنّ دفع المنكر كرفعه واجب ، و لا يتمّ إلّا بترك بيع المذياع ممّن ينتفع به في الحرام ، فيجب .

و الدليل على وجوبه ، مضافاً إلى أدلّة النهي عن المنكر :

خبر أبي حمزة ، عن الإمام الصادق (ع) : « لو لا أنّ بني اميّة وجدوا لهم مَن

ص:253


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 5 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب التجارة ، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
3- 3) سورة النساء : الآية 48 . [3]
4- 4) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .

يكتب ، و يجبي لهم الفيء ، و يقاتل عنهم ، و يشهد جماعهم ؛ لما سلبونا حقّنا » (1)، بعد إلغاء الخصوصيّة .

أمّا أدلّة النهي عن المنكر ، فهي مختصّة بحسب مداليلها اللفظيّة بمن شرع في الحرام ، فالاستدلال بها لوجوب ردع من همّ به ، و أشرف عليه ، يتوقّف على إحراز وجود المناط فيه ، بدعوى أنّ المناط هو عدم وجود المنكر في الخارج ، و دونه خرط القتاد .

و إلّا لزم الالتزام بأنّ ترك إيجاد الفاعل للحرام و إبقائه ، و ترك تهيئة الموضوع للحرام ، كتجارة التاجر بالنسبة إلى أخذ العشور ، من قبيل الفعل الواجب ؛ لكون كلّ واحد منها موجباً لعدم وجود المنكر في الخارج .

مع أنّ ما به يدفع المنكر ، إنّما هو ترك الإقباض ، لا ترك البيع .

أضف إلى ذلك أنّه لو سلم شمول أدلّة النهي عن المنكر ، لترك البيع في المقام ، لكان غايته وجوب الترك ، لا حرمة الفعل .

و على فرض تسليم حرمة الفعل ، فإنّ حرمة المعاملة غير مستلزمة لفسادها .

و أمّا الخبر ، فيردّ على الاستدلال به : إنّه لا وجه لإلغاء الخصوصيّة ، مع احتمال أن يكون لسلب الخلافة ، الذي هو من أعظم المحرّمات ؛ لكونه المنشأ و الأساس لسائر المنكرات ، خصوصيّة .

الوجه الثالث : خبر ( جابر ) أو ( صابر ) (2)، عن إمامنا الصادق (ع) : عن الرجل

ص:254


1- 1) الوسائل : الباب 47 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 ، و [1]هذه الرواية ضعيفة لإبراهيم بن إسحاق الأحمري .
2- 2) وجه ترديد سماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) بين ( جابر ) و ( صابر ) هو : اختلاف الضبط في المجاميع الحديثيّة ، حيث ضُبط في أحد موضعي التهذيب ب ( صابر ) ، و ضبط في الموضع الآخر منه ، و كذلك في ( الاستبصار ) و ( الكافي ) ب ( جابر ) ، و هو الأرجح لما هو المعروف من أضبطيّة الكافي على غيره ، و يتأكّد ذلك باتّحاد الضبط في موضع آخر من كتاب ( التهذيب ) نفسه .

يؤجر بيته فيباع فيه الخمر ؟ قال (ع) : « حرام أجره » (1)دالّ عليه .

فإنّه و إن ورد في الإجارة ، إلّا أنّه يتمّ في البيع أيضاً من جهة اتّحاد حكمهما ، فبعد إلغاء الخصوصيّة يتمّ الحكم في المقام أيضاً .

و فيه :

أوّلاً : إنّ الخبر ضعيف ، على تقدير كونه لجابر .

و ثانياً : إنّه يحتمل أن يكون مورده إيقاع الإجارة ، بنحو تنتقل المنفعة الخاصّة ، و لا ريب في فساد الإجارة حينئذٍ ، و لكنّه لا يلازم فساد البيع لذلك ، حيث يكون المقابل به نفس العين .

و ثالثاً : إنّه قد تقدّم ذكر نصوص جواز بيع العنب ممّن يجعله خمراً ، فعلى فرض التعدّي يحمل الخبر بقرينة تلك النصوص على الكراهة .

فالمتحصّل : جواز بيع المذياع مطلقاً ، وضعاً و تكليفاً .

الموقف الفقهي من بيع ( التلفزيون ) :

و أمّا التلفزيون ، فبعنوانه الأولي : حكم بيعه حكم بيع المذياع ، طابق النعل بالنعل ، و حكم استماع أخباره حكم استماع الأخبار من المذياع .

و أمّا النظر إلى ما فيه من الصور و التماثيل ، فإن كانت الصورة صورة الرجل أو المرأة غير المسلمة ، فلا إشكال في الجواز ، و إن كانت صورة المرأة المسلمة ،

ص:255


1- 1) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .

فسيأتي الكلام فيه مفصّلاً في المسألة الثامنة عشر (1).

و أمّا بالعنوان الثانوي : فعلى كلّ مسلم أن يتجنّب عنه ، و توضيح ذلك :

إنّه قبل قرنين من الزمن تقريباً أنشب الاستعمار الأوربي مخالبه في إيران ، و في كثير من بلاد الشرق الإسلامي .

و لكنّ الاستعمار الأوربي علم من أوّل وهلة : أنّ استعمار هذه البلاد لا يتمّ ما دام القرآن ، هو الكتاب السماوي الذي يتبعه المسلمون ، و يجرون أحكامه و قوانينه ، و يتّبعون إرشاداته و تعاليمه .

و بهذا صرّح « كلادستون » رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت ، فقد صرّح في مجلس العموم البريطاني قائلاً :

«أن لا نفوذ لبريطانيا في الشرق الإسلامي ، و القرآن عندهم ، يعملون به ، و يهتدون بهداه » .

و من ذلك الوقت اتّجهوا وجهة اخرى ، فأخذوا يسعون بشتّى الطرق و الوسائل لتضعيف الإسلام في نفوس المسلمين ، و محو ما علق في نفوسهم من التعلّق بالقرآن ، و العمل بأحكامه ، و السير على هديه ، و حاولوا إزالة القرآن من بينهم ، ليخلوا لهم الجوّ ، و يفعلوا ما يشاءون .

فخلقوا الأحزاب السياسيّة ، و أعطوا بعضها صبغة دينيّة ، ليكون تأثيرها في النفوس شديداً ، و اشتدّوا في ترويجها في بلاد المسلمين .

و كان من تلك الأحزاب ، بل و من أشدّها فتكاً و عداءً للإسلام هو الحزب المسمّى بالمذهب البهائي ، الذي خلقه الغربيّون ، و ناصروه جهد طاقتهم ، ليخلقوا

ص:256


1- 1) الصفحة : 290 . [1]

في جموع المسلمين البلبلة و الانقسام ، فكان هذا الحزب عند حسن ظنّهم ، فقد عمل جاهداً لترويج ما يتطلّبه أسياده في صفوف المسلمين ، و قد نصب الحبائل لذلك .

و كانت من جملة مصائده و حبائله التي اتّخذها آلة : ( التلفزيون ) الذي احتكر البهائيّون امتيازه في جميع إيران ، و عيّنوا مقداراً من عائداته لترويج هذا المسلك ، و صار من أخطر الوسائل في أيديهم ، يروّجون به مبادئهم ، بما يظهرون فيه من خلاعة و باطل .

أضف إلى ذلك : أنّ التلفزيون ببرامجه الحاضرة ، أصبح مدرسة للرذيلة ، لا للتوجيه ، و لذلك فإنّ فقيه العصر ، آية اللّه ( البروجردي ) ( قدّس اللّه نفسه ) منع من استعمال هذه الآلة ، التي أصبحت بؤرة فساد بيد البهائيّين ، و المعاملة عليها ، و الحقّ ما قاله (قدس سره) ، لمطابقة قوله للموازين الشرعيّة .

حفظ اللّه المسلمين من يد الأجانب ، و من عبثهم في عقول المسلمين ، و نجّاهم من دسائس الرتل الخامس الذي تمثّله هذه الأحزاب الباطلة ، و أهلك اللّه كلّ من تسوّل له نفسه العبث في بلاد المسلمين (1).

ص:257


1- 1) ما أفاده سماحة الاُستاذ ( دام ظلّه ) ناظر إلى مرحلة زمنيّة معيّنة ، كان قد شاع فيها استخدام ( التلفزيون ) في المحرّمات اللهويّة ، و إلّا فإنّه ( دام ظلّه ) لا يمنع عن استخدامه ما لم يعدّ من آلات اللهو عرفاً ، و لذلك قال في رسالته العمليّة ( منهاج الصالحين ) : 5/2 : « [1] أمّا التلفزيون ، فإن عدّ عرفاً من آلات اللهو ، فلا يجوز بيعه و لا استعماله ، و أمّا مشاهدة أفلامه فلا بأس بها ، إذا لم تكن مثيرة للشهوة ، بل كانت فيها فائدة علميّة أو ترويح للنفس ، و إذا اتّفق أن صارت فوائده المحلّلة المذكورة كثيرة الوقوع ، بحيث لم يعدّ من آلات اللهو عرفاً ، جاز بيعه و استعماله ، و يكون كالراديو ، و تختصّ الحرمة - حينئذٍ باستعماله في جهات اللهو المثيرة للشهوات الشيطانيّة .

ص:258

المسألة السابعة عشر الكحول الصناعيّة

اشارة

و تقرأ فيها :

أقسام الكحول الصناعية

بحث حول ( نجاسة الخمر )

بحث حول نجاسة المسكرات

الموقف الفقهي من طهارة ( الكحول الصناعية )

الموقف الفقهي من بيع ( الكحول الصناعية )

ص:259

ص:260

من الموضوعات المستحدثة : الكحول الصناعيّة ، و قد كثر بها الابتلاء في الأدوية و الإبر و ما شاكلها ، و لذلك كثر التساؤل عنها ، و اختلفت كلمات أعلام العصر فيها ، فينبغي لنا بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منها ، و ذلك في مقامين :

الأوّل : في بيان حكمها من حيث الطهارة و النجاسة .

الثاني : في بيان حكم المعاملة الواقعة عليها صحّة و فساداً .

أمّا المقام الأوّل : فتنقيح القول فيه بالبحث في موارد :

1 - أقسام الكحول الصناعيّة .

2 - نجاسة الخمر و طهارته .

3 - نجاسة كلّ مسكر .

4 - تطبيق الكبرى الكلّية ، على هذا الموضوع الخاصّ .

المورد الأوّل : أقسام الكحول الصناعيّة :

و الظاهر أنّ لها قسمين :

أحدهما : ما يؤخذ من الأخشاب و غيرها (1).

ص:261


1- 1) قال في المنجد مادة ( كحل ) : الكحول ، أو الكحول الإتيليك ، أو الإيتانول ، و يسمّى عند العامّة ( السبيرتو ) : سائل لا لون له ، له رائحة لذيذة و طعم لاذع ، و هو يستخرج من تخمير بعض السكّرات و الحبوب و البطاطا و الخشب و غيرها ، و يصطنع كيماويّاً ، و هو يدخل في المشروبات الروحية ! ! و يستعمل وقوداً أو مطهّراً ، و لتذويب العطور و الدهانات.

الثاني : ما يتّخذ من الخمر ، المعبّر عنه ب ( جوهر الخمر ) ، و هو الذي يتحصّل بتبخيرها و أخذ عرقها ، و للقسم الأوّل أنواع لا يهمّنا استقصاؤها ، بعد كونها مشتركة فيما تقتضيه القواعد الفقهيّة .

المورد الثاني : نجاسة الخمر :

المعروف بين الأصحاب نجاسة الخمر ، و عن السرائر بعد نفي الخلاف عن نجاسة الخمر ، و حكايته عن بعض أصحابنا ما يقتضي الطهارة ، أنّه قال : و هو مخالف لإجماع المسلمين فضلاً عن الطائفة ، في أنّ الخمر نجس (1)، و قريب منه ما عن الشيخ البهائي (ره) (2)، و الظاهر أنّ عليها المالكيّة و الشافعيّة و الحنفيّة و الحنابلة ، كما عن بعض مصادرهم (3).

و عن جماعة من القدماء و المتأخّرين ، كالصدوق (4)، و والده ، و الجعفي (5)، و العماني (6)، و المقدّس الأردبيلي (7)، و الفاضل الخراساني (8)، و غيرهم ، القول بالطهارة ، و قد استدلّ للنجاسة بوجوه :

ص:262


1- 1) السرائر : 178/1 و 179 .
2- 2) مشرق الشمسين : 427 .
3- 3) الفقه على المذاهب الأربعة : 125/1 . [1]
4- 4) من لا يحضره الفقيه : 55/1 .
5- 5) حكى القول بالطهارة عن والد ابن بابويه و الحسن الجعفي ، صاحب الجواهر (قدس سره) : 3/6 . [2]
6- 6) فقه ابن أبي عقيل العماني : 98 .
7- 7) مجمع الفائدة و البرهان : 310/1 .
8- 8) ذخيرة المعاد : 154 . [3]

الوجه الأوّل : الآية الكريمة : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1).

و ذكر العلّامة (ره) في المختلف وجهين لدلالتها على نجاسة الخمر .

أحدهما : إنّ الرجس لغة النجس .

و ثانيهما : إنّ الأمر بالاجتناب المطلق إرشاد إلى النجاسة (2).

و فيه : إنّ الرجس بمعنى القبيح ، و ليس بمعنى النجاسة ، بل الظاهر عدم صحّة حمله في الآية على النجاسة ؛ لوجهين :

أحدهما : إنّه اسند إلى شرب الخمر ، كما يشهد به عطف الميسر عليها ، و قوله تعالى : ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

ثانيهما : إنّه لا معنى لنجاسة بقيّة الاُمور المذكورة في الآية ، فإنّ منها الميسر ، و هو من الأفعال ، و الفعل لا يتّصف بالنجاسة ، فالآية الشريفة لا تدلّ على النجاسة .

الوجه الثاني : الإجماع الذي نقله السيّد (3)، و الشيخ (4)، و ابن زهرة (5)، و العلّامة في التحرير (6)، و ابن إدريس (7)، و يحيى بن سعيد (8)، و فخر المحقّقين (9)

ص:263


1- 1) سورة المائدة : الآية 90 . [1]
2- 2) مختلف الشيعة : 470/1 .
3- 3) موسوعة الينابيع الفقهيّة : 145/1 .
4- 4) المبسوط : 36/1 .
5- 5) غنية النزوع : 41/1 .
6- 6) تحرير الأحكام : 157/1 .
7- 7) السرائر : 178/1 .
8- 8) الأشباه و النظائر : 18 .
9- 9) إيضاح الفوائد : 155/4 .

على النجاسة .

و فيه :

أوّلاً : إنّه غير محقّق ، بعد ذهاب جمع من الأساطين إلى القول بالطهارة .

و ثانياً : إنّه لمعلوميّة مدرك المجمعين لا يعتمد عليه .

الوجه الثالث : النصوص الكثيرة ، و قيل : إنّ مجموعها يقرب من عشرين حديثاً ، و ألسنتها مختلفة (1).

منها : ما تضمّن الأمر بغسل الثوب الذي أصابه خمر أو نبيذ .

كصحيح عليّ بن مهزيار : و روي عن زرارة (2)عن أبي عبد اللّه (ع) أنّه قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ - يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك » (3)، و نحوه غيره .

و منها : ما تضمّن الأمر بإراقة ما قطرت فيه قطرة من خمر ، و غسل ما لاقته .

كخبر زكريا بن آدم ، عن أبي الحسن (ع) : عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ، و مرق كثير ؟ قال (ع) : « يهراق المرق ، أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب ، و اللحم اغسله و كله » (4)، و نحوه غيره .

و منها : ما تضمّن تنجيس النبيذ .

كخبر أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) في حديث النبيذ ، قال : « ما يبلّ الميل

ص:264


1- 1) القائل هو صاحب الجواهر [1](قدس سره) في جواهر الكلام : 7/6 . [2]
2- 2) في هامش النسخة المخطوطة من الوسائل : « و [3]روي عن غير زرارة » ، فلاحظ وسائل الشيعة : تحقيق مؤسّسة آل البيت (ع) : 468/3 .
3- 3) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 2 . [4]
4- 4) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 8 . [5]

ينجس حبّاً من ماء » ، يقولها ثلاثاً (1).

و منها : غير ذلك ممّا ورد في الأخبار الكثيرة المستفيضة ، التي لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها عن المعصوم (ع) ، فلا مورد للمناقشة فيها من حيث السند .

و بإزائها جملة من النصوص الظاهرة أو الصريحة في الطهارة ، حتّى قال الشيخ الأعظم في طهارته : إنّها تبلغ اثني عشر حديثاً (2).

كصحيح عليّ بن رئاب ، سألت أبا عبد اللّه (ع) : عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو اصلّي فيه ؟ قال (ع) : « صلِّ فيه ، إلّا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر ، إنّ اللّه تعالى إنّما حرّم شربها » (3).

و مصحّح الحسين بن أبي سارة ، قال : قلت لأبي عبد اللّه (ع) : إن أصاب ثوبي شيء من الخمر اصلّي فيه قبل أن أغسله ؟ قال (ع) : « لا بأس إنّ الثوب لا يسكر » (4).

و خبر حفص الأعور ، قال : قلت لأبي عبد اللّه (ع) : الدن يكون فيه الخمر ثمّ يجفّف ، يجعل فيه الخلّ ؟ قال (ع) : « نعم » (5)، و نحوها غيرها .

و قد قيل في مقام الجمع وجوه :

الأوّل : ما في المدارك ، و هو حمل نصوص النجاسة على الاستحباب (6).

ص:265


1- 1) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 6 . [1]
2- 2) كتاب الطهارة : 361/2 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 14 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 10 . [4]
5- 5) الوسائل : [5] الباب 51 من أبواب النجاسات ، و الباب 30 من الأشربة المحرّمة ، الحديث 2 .
6- 6) مدارك الأحكام : 292/2 .

و فيه : إنّ الجمع العرفي بين المتقابلين بحمل الظاهر على النصّ ، إنّما يكون فيما لو ألقيناهما على العرف لرأوا أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، و في المقام ليس الأمر كذلك ؛ إذ الأمر بإهراق المرق و غسل اللحم في خبر زكريّا المتقدّم ، و التصريح بالنجاسة في خبر أبي بصير ، لا يمكن حملهما على الاستحباب ، و العرف لا يرون نصوص الطهارة قرينة على هذا التصرّف .

الثاني : تقديم نصوص النجاسة لموافقتها للكتاب ، و هو قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ . . . ) .

و فيه : ما عرفت من عدم دلالته على النجاسة .

الثالث : تقديم نصوص الطهارة لمخالفتها للعامّة ، فإنّهم ملتزمون بنجاستها .

و فيه : إنّ نصوص النجاسة أيضاً مخالفة لهم ، من جهة أنّ ربيعة الرأي ، الذي هو أحد قضاتهم المعاصرين للإمام الصادق (ع) بانٍ على طهارتها (1)، و كذلك داود (2).

مع أنّه لا شكّ في أنّ امراءهم و سلاطينهم كانوا يشربون الخمر و لا يجتنبونه ، فأخبار النجاسة مخالفة لعملهم ، كما أنّ أخبار الطهارة مخالفة لحكمهم .

الرابع : إنّه يمكن نفي المعارضة بين الطائفتين بأن يقال : إنّ نصوص الطهارة على طائفتين :

الاُولى : ما دلّ على أنّ إناء الخمر لا ينجس الماء و غيره ، كخبر حفص .

الثانية : ما دلّ على صحّة الصلاة مع الثوب الذي أصابه الخمر .

و الجمع بينهما و بين نصوص النجاسة يقتضي حمل الأوّل على إرادة بيان

ص:266


1- 1) راجع : أحكام القرآن / ابن العربي المالكي : 271/1 .
2- 2) راجع : الميزان / الشعراني : 96/1 .

أنّ المتنجّس لا ينجِّس ، و الثانية على أنّ الخمر نجسة معفوّ عنها ، كالدم الأقلّ من الدرهم ، و دم القروح ، و النجاسات في حال الضرورة ، و يكون ذلك أخذاً بهما ، فهي نجسة .

و على فرض الإباء عن كون ذلك أيضاً جمعاً عرفيّاً ؛ نظراً إلى أنّ قوله في صحيح ابن رئاب : أغسله أو اصلّي فيه ؟ كالصريح في السؤال عن نجاستها ، فجوابه (ع) : « صلِّ فيه ، إلّا أن تقذره » ، لا سيّما مع التعليل بأنّ اللّه حرّم شربها ، يكون كالصريح في الطهارة .

إلّا أنّه مع ذلك كلّه يتعيّن تقديم نصوص النجاسة للشهرة ، فإنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة الروائيّة على ما حقّق في محلّه (1).

و يؤيّد ذلك ، بل يشهد به صحيح عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن (ع) : جعلت فداك ، روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (ع) في الخمر يصيب ثوب الرجل ، أنّهما قالا : « لا بأس بأن تصلّي فيه ، إنّما حرّم شربها » ، و روي عن غير زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) أنّه قال : « أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني : المسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، و إن

ص:267


1- 1) زبدة الاُصول : 341/6 . و [1]فيها قال سيّدنا الاُستاذ ( دام ظلّه ) : « أمّا الشهرة الروائيّة ، و هي اشتهار الرواية بين الرواة ، و أرباب الكتب الحديثيّة : بأن ينقلها كثير منهم ، فلا إشكال في الترجيح بها ، لما عرفت من أنّه الظاهر من المقبولة و غيرها ، و أمّا الشهرة العمليّة ، و هي عبارة عن استناد المشهور إلى رواية في الفتوى و عملهم بها ، فهي من مميزات الحجّة [2]عن اللاحجّة حجّة . . . و أمّا الشهرة الفتوائيّة ، و هي عبارة عن اشتهار الفتوى على طبق مضمون الرواية ، مع عدم إحراز استنادهم في الفتوى إلى تلك الرواية ، بأن كانت الفتوى مطابقة للقاعدة أو الأصل العملي . و احتمل استنادهم إليها ، لا إلى الرواية ، فالظاهر عدم كونها حجّة و لا جابرة لضعف السند » ، و تفصيل البحث في المصدر المذكور .

لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، و إن صلّيت فيه فأعد صلاتك » ، فاعلمني ما آخذ به ؟ فوقّع (ع) بخطّه و قرأته : « خذ بقول أبي عبد اللّه (ع) » .

فإنّه ناظر إلى الطائفتين ، و مبيّن لما يكون مقدّماً ، و يجب العمل به عند التعارض ، و بعبارة اخرى : إنّه من نصوص الترجيح ، و راجع إلى باب التعادل و الترجيح ، غاية الأمر في مورد مخصوص ، و متضمّن لتقديم نصّ النجاسة ، فإنّ نصّ الطهارة قول أبي جعفر و أبي عبد اللّه (ع) معاً ، لا قول أبي عبد اللّه خاصّة ، و أمّا الآخر فقوله خاصّة ، و الشاهد عليه مضافاً إلى ظهوره عدم تحيّر السائل في الجواب ، و عدم السؤال ثانياً أنّ قول أبي عبد اللّه (ع) أي الروايتين ، فيستكشف من ذلك إرادته (ع) خصوص نصّ النجاسة .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : نجاسة الخمر .

حكم الشريعة المقدّسة في نجاسة المسكرات :

ثمّ لا إشكال و لا كلام في أنّ المسكرات المائعة ملحقة بالخمر ، من حيث حرمة شربها ، و قد دلّت على ذلك نصوص مستفيضة (1).

إنّما الكلام في أنّها هل تكون ملحقة بها من حيث النجاسة ؟ أم تكون محكومة بالطهارة ؟ و قد استدلّ للنجاسة بوجوه :

الوجه الأوّل : ما في المعتبر (2)، و الحدائق (3)، و هو : أنّ الخمر ليست اسماً لخصوص مائع خاصّ ، بل هي اسم لكلّ مسكر ، فإنّ الخمر ما يخامر العقل ،

ص:268


1- 1) الوسائل : الباب 15 و 19 من أبواب الأشربة المحرّمة .
2- 2) المعتبر : 424/1 . [1]
3- 3) الحدائق الناضرة : 111/5 .

فما ساواه في المسمّى يساويه في الاسم .

و استند في هذه الدعوى إلى اللغة ، و القرآن العزيز ، و السنّة .

أمّا اللغة : فلتصريح جمع من اللغويّين كأصحاب القاموس (1)، و تاج العروس (2)، و المصباح (3)، و غيرهم ، بذلك .

و أمّا القرآن : فقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ . . . ) (4)بضميمة ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية ، عن أبي الجارود ، عن الإمام الباقر (ع) : « أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب ، إذا أخمر فهو خمر » (5)، و في مجمع البيان ، عن ابن عبّاس في تفسيرها : يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر (6).

و أمّا السنّة : فجملة من النصوص المتضمّنة : أنّ الخمر لا ينحصر بما يتّخذ من عصير العنب ، كصحيح ابن الحجّاج ، عن الإمام الصادق (ع) قال رسول اللّه (ص) : « الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، و النقيع من الزبيب ، و التبع من العسل ، و المزر من الشعير ، و النبيذ من التمر » (7)، و قريبة منه أخبار عليّ بن إسحاق الهاشمي ، و النعمان بن بشير ، و الحسن الحضرمي ، و غيرهم (8).

ص:269


1- 1) القاموس المحيط : 23/2 .
2- 2) قال الزبيدي في تاج العروس : 186/3 : « [1] ما أسكر من عصير كلّ شيء ، لأنّ المدار على الكرّ و غيبوبة العقل ، و هو الذي اختاره الجماهير .
3- 3) المصباح المنير : 96 .
4- 4) سورة المائدة : الآية 90 . [2]
5- 5) الوسائل : الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 5 . [3]
6- 6) مجمع البيان : 370/2 .
7- 7) الوسائل : الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 3 . [4]
8- 8) لاحظ الوسائل : الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الأحاديث 2 و 3 و [5] 4 و 6 .

و فيه : إنّه لا إشكال في أنّ الخمر ليست اسماً لخصوص ما يؤخذ من العنب ، بل قد يدّعى أنّ الخمر من العنب لم يكن لها وجود في زمان نزول الآية المباركة أصلاً ، كما يوحي بذلك ما قاله أبو موسى الأشعري ، على ما نقل عنه : « خمر المدينة من البسر و التمر » .

إنّما الكلام في أنّها اسم لكلّ مسكر ، أو يتوقّف صدقها على صنعة خاصّة ، و لا دلالة في شيء من النصوص و الآية على ذلك ، و كلمات اللغويّين غير متّفقة على شيء ، فلا يثبت بها ذلك .

بل ظاهر جملة من النصوص كونها اسماً لقسم خاصّ من المسكر ، كصحيح عليّ بن مهزيار المتقدّم : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني : المسكر فاغسله » .

و خبر عمّار عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث : « لا تصلِّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله » (1).

و خبر يونس ، عن بعض من رواه عن الإمام الصادق (ع) : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله » (2)، و نحوها غيرها ، فإنّ عطف المسكر و النبيذ عليها آية التغاير .

و يشهد للتغاير أيضاً خبر عليّ بن يقطين الآتي : « إنّ اللّه لم يحرّم الخمر لاسمها ، و لكنّه حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » ، فإنّه كالصريح في عدم صدق الخمر على كلّ مسكر .

و بالجملة : كلّ ما يخامر العقل ليس مسمّى باسم الخمر قطعاً ، و لذا لم يتوهّم

ص:270


1- 1) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 7 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 3 . [2]

أحد صدقها على المسكر الجامد .

الوجه الثاني : الإجماع المدّعى انعقاده على الملازمة بين حرمة شربها و نجاستها .

و فيه :

أوّلاً : إنّه غير محقّق ، كيف و قد ذهب جمع من الأساطين - كما تقدّم نقل أقوالهم إلى طهارة الخمر ، فضلاً عن غيرها .

و ثانياً : إنّه لمعلوميّة مدرك المجمعين لا يعتمد عليه ؛ لعدم استكشاف رأي المعصوم (ع) منه .

الوجه الثالث : النصوص الناهية عن الصلاة في الثوب الذي أصابه المسكر ، كصحيح عليّ بن مهزيار ، و موثّق عمّار المتقدّمين آنفاً ، و الآمرة بإهراق الماء الذي قطرت فيه قطرة من المسكر .

كخبر عمر بن حنظلة ، قلت لأبي عبد اللّه (ع) : ما ترى في قدح من مسكر ، يصبّ عليه الماء حتّى تذهب عاديته ، و يذهب سكره ؟ فقال : « لا و اللّه و لا قطرة قطرت في حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ » (1).

و فيه : إنّ عمر بن حنظلة لم يوثّقه أحد ، و تلقّي الأصحاب خبره الوارد في صفات القاضي بالقبول ، و لأجله سمّي بالمقبول ، لا يستلزم قبول خبره في سائر الموارد .

و أمّا الصحيح و الموثّق : فيعارضهما موثق ابن بكير ، قال : سأل رجل أبا عبد اللّه (ع) و أنا عنده : عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب ؟ قال (ع) : « لا بأس » (2).

ص:271


1- 1) الوسائل : الباب 18 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 1 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحديث 11 . [2]

و الجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على استحباب التجنّب ، مع اختصاص أكثرها بالنبيذ .

الوجه الرابع : النصوص المتضمّنة : « أنّ كلّ مسكر خمر » .

كخبر عطاء بن يسار ، عن الإمام الباقر (ع) ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « كلّ مسكر حرام ، و كلّ مسكر خمر » (1).

و خبر عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (ع) : « إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها ، و لكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (2)، و نحوهما غيرهما .

و فيه : إنّ الظاهر منها التنزيل و التشبيه بلحاظ الحرمة خاصّة ، و لذا ترى أنّ الأصحاب لم يفهموا من هذه النصوص نجاسة المسكر الجامد .

أضف إلى ذلك ضعف أسنادها ، فإذاً لا دليل على نجاسة كلّ مسكر سوى تسالم الأصحاب .

و لكن يمكن أن يقال : إنّ النصوص الناهية عن الصلاة في الثوب الذي أصابه المسكر قسمان : أحدهما - و هو الأكثر ما يكون مختصّاً بالنبيذ ، و ثانيهما ما يعمّ كلّ مسكر ، كموثّق عمّار المتقدّم ، و دلالة القسم الثاني على النجاسة لعلّها ظاهرة ، فإنّ النهي عن الصلاة في الثوب الذي أصابه المسكر قبل أن يغسل ، ظاهر في الإرشاد إلى النجاسة .

و بعبارة اخرى : إنّه لو كان مانعاً كان غايته الزوال لا الغسل ، فمن جعل غايته

ص:272


1- 1) الوسائل : الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 5 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 1 . [2]

الغسل يستكشف كونه نجساً .

و يمكن دفع المعارضة بينه و بين موثّق ابن بكير المتقدّم ، بأنّه لا ظهور لموثّق ابن بكير في خصوص الصلاة ، و قابل للحمل على الانتفاع به في غير الصلاة ، فالجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد ، يقتضي البناء على جواز الانتفاع به في غير الصلاة ، و لزوم التجنّب عنه فيها ، فتدبّر .

فإنّ للمناقشة في دلالة ذلك على النجاسة ، نظراً إلى احتمال كونه طاهراً مانعاً عن الصلاة ، مجالاً واسعاً ، إلّا أنّ ذلك بضميمة الشهرة و الإجماع المنقول ، إن لم يكن منشئاً للإفتاء بالنجاسة ، فلا أقلّ يكون سبباً للاحتياط اللزومي .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : نجاسة كلّ ما يصدق عليه الخمر ، سواء كان متّخذاً من العنب أو التمر أو غيرهما ، و لزوم الاحتياط في الاجتناب عن كلّ مسكر ، و إن لم يصدق عليه اسم الخمر .

تقريب العلّامة الحلّي (قدس سره) لطهارة المسكرات :

ثمّ إنّ العلّامة (ره) في محكي المختلف ، لفّق قياساً لطهارة المسكر ، لا بأس بالتعرّض له ، و هو : أنّ المسكر لا تجب إزالته للصلاة بالإجماع ، لوقوع الخلاف فيه ، بينما كلّ نجس تجب إزالته إجماعاً ، فينتج أنّ المسكر ليس بنجس .

و أجاب عنه : بأنّ الإجماع في المقدّمة الاُولى جزء للمحمول ، و في الثانية جهة للقضيّة ، فلم يتكرّر الأوسط (1).

و أورد عليه في محكي المشارق : بأن جهة القضيّة يمكن جعلها جزءاً للمحمول

ص:273


1- 1) مختلف الشيعة : 472/1 .

مع صدق القضيّة ، كأن يقال : كلّ نجس ، قطعي أو ضروري وجوب إزالته (1).

و فيه : أنّه إذا جعل الإجماع جزءاً للمحمول ، فلا نسلّم الإجماع على وجوب إزالة كلّ نجس واقعي ، فلا تصدق القضيّة ، و إن اريد النجس المعلوم ، فالنتيجة حينئذٍ عدم كون المسكر من النجس المعلوم ، و هو غير مقيّد ، هكذا أفاد بعض المحقّقين ، و هو متين (2).

الموقف الفقهي من الكحول الصناعيّة :

قد عرفت أنّ لها قسمين :

أحدهما : ما يؤخذ من الأخشاب .

الثاني : ما يتّخذ من الخمر .

أمّا القسم الأوّل : فعلى القول بعدم الدليل على نجاسة كلّ مسكّر ، لا كلام في أنّه محكوم بالطهارة لأصالتها ، و أمّا على القول بها ، فيمكن البناء على طهارته لوجهين :

1 - الوجه الأوّل : إنّ الكحول المفروضة سمّ قتّال لا تصلح للشرب ، و من يستعملها إنّما يستعملها بعد خلطها بالماء ، و لعلّ في خلط الماء دخلاً في تحقّق صفة الإسكار ، و عليه فكونها مسكرة غير ثابت ، فمقتضى الأصل طهارتها .

و إن شئت قلت : إنّ المنشأ لتكوّن المسكرات إنّما هو المادة الكحوليّة ، و منشأ اختلاف مراتب السكر الحاصل من استعمالها هو زيادة تلك المادة و نقصها ، فمثلاً : العرق مشتمل على المادة الكحوليّة بنسبة الأربعين في المائة فما زاد ، و سائر

ص:274


1- 1) مشارق الشموس : 334/1 . [1]
2- 2) كتاب الطهارة / الشيخ الأنصاري (قدس سره) : 361/2 . [2]

الخمر مشتمل على تلك المادة بنسبة العشرة في المائة ، و الفقاع مشتمل على تلك المادة بنسبة الخمسة في المائة ، و هكذا .

إلّا أنّ نفس تلك المادة غير مؤثّرة بالفعل في الإسكار ، بل هي قاتلة ، و إنّما يحصل لها هذا الوصف بعد مزجها بمقدار من الماء ، و لا أقلّ من الشكّ في ذلك ، و حيث أنّ الظاهر من أخذ كلّ عنوان في موضوع الحكم دخل فعليّته فيه ، فهي غير مشمولة لما دلّ على نجاسة كلّ مسكر ، فيتعيّن الرجوع إلى أصالة الطهارة .

2 - الوجه الثاني : انصراف المسكر المأخوذ موضوعاً في النصوص إلى المسكر المتعارف شربه ، و أمّا ما لا يمكن شربه ، كالكحول الصناعيّة ، لا سيّما مع عدم وجوده في زمان صدور الروايات ، و إن أوجب الإسكار على تقدير شربه ، فهو غير مشمول له للانصراف .

فالمتحصّل : طهارتها على التقديرين .

و أمّا القسم الثاني : فحكمه حكم هذا القسم : و ذلك لأنّ المصعّد من الأعيان النجسة ، ما لم ينطبق عليه عنوان آخر نجس ، طاهر ، فإنّ المصعّد هو البخار ، و هو غير ذلك الموضوع عرفاً ، فموضوع النجاسة ينعدم عرفاً ، فلا محالة يرتفع حكمه ، و ما يتحقّق به التصعيد موضوع آخر بنظر العرف ، فما لم ينطبق عليه عنوان نجس ، محكوم بالطهارة ، و على فرض الشكّ في الاستحالة أيضاً يحكم بالطهارة ، و لا يجري الاستصحاب ، لا الاستصحاب الحكمي للشكّ في بقاء الموضوع ، و لا الموضوعي ، أي: نفس العنوان الذي رتّب عليه الحكم ، مثل كونه خمراً ؛ لأنّه على فرض الاستحالة يكون ما احيل إليه غير ما احيل منه ، و ما كان متّصفاً بهذا العنوان سابقاً هو الثاني ، و ما اريد إثباته له في الزمان اللّاحق هو الأوّل .

ص:275

و بالجملة : احتمال تحقّق الاستحالة ، الموجبة لتبدّل الموضوع ، مانع عن جريان الاستصحاب .

لا يقال : إنّ البخار كالغبار ، فكما أنّ الغبار ليس موضوعاً مغايراً للتراب ، فكذلك البخار .

فإنّه يجاب عنه : بأنّ المدّعى تغاير البخار لما تصاعد منه عرفاً ، و عليه فالفرق بينهما إنّما هو من ناحية الصدق العرفي في الغبار دون البخار .

و على هذا التمهيد : فإنّ المصعد من الخمر الذي يعبّر عنه ب « العرق » نجس من جهة صدق عنوان الخمر عليه ، و المصعّد منها الذي يعبّر عنه ب « جوهر الخمر » الذي هو المادة الكحوليّة المحضة ، يكون طاهراً ، لعدم صدق عنوان الخمر عليه .

الموقف الفقهي من بيع الكحول الصناعيّة :

و أمّا المقام الثاني : فلا إشكال نصّاً و فتوى في عدم جواز بيع الخمر .

إنّما الكلام في موردين :

1 - في بيع المسكرات المائعة .

2 - في بيع الكحول الصناعيّة .

أمّا الأوّل : فقد استدلّ لعدم جواز بيع المسكرات المائعة بوجوه :

الأوّل : قوله (ع) في موثّق عليّ بن يقطين المتقدّم : « فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » ، و نحوه خبره الآخر ، بدعوى أنّهما بعموم التنزيل يدلّان على ترتيب جميع أحكام الخمر على كلّ مسكر ، و منها حرمة البيع .

و فيه : ما تقدّم من أنّهما بقرينة صدرهما ، ظاهران في التشبيه من حيث

ص:276

الحرمة خاصّة .

الثاني : حسن عمّار بن مروان ، عن الإمام الباقر (ع) في حديث : « و السحت أنواع كثيرة ، منها : اجور الفواجر ، و ثمن الخمر ، و النبيذ ، و المسكر ، و الربا بعد البيّنة » (1).

و فيه : إنّ الحديث مروي عن غير نسخة التهذيب مع إسقاط لفظ « الواو » فيكون المسكر وصفاً للنبيذ ، فغاية ما يستفاد منه عدم صحّة بيع النبيذ المسكر .

الثالث : قوله (ع) في خبر عطاء المتقدّم : « و كلّ مسكر خمر » ، حيث إنّ ظاهره ترتيب جميع آثار الخمر على كلّ مسكر .

و فيه : إنّ الخبر ضعيف لضعف عدّة من رواته (2).

الرابع : صدق الخمر على كلّ مسكر .

و قد تقدّم ما يتوجّه عليه ، فراجع (3).

فالأظهر : جواز المعاملة على المسكر ، الذي لا يصدق عليه اسم الخمر .

و أمّا الثاني : فعلى القول بجواز المعاملة على غير الخمر من المسكرات ، يكون جواز المعاملة على الكحول ظاهراً .

ص:277


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
2- 2) يرويه الشيخ الكليني (قدس سره) - كما في الوسائل : الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث 5 [2] عن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، و لا كلام في وثاقتهم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، و هو مجهول لم يوثّق ، عن أبيه ، و هو كولده في الجهالة ، عن عطاء بن يسار ، و هو معطوف على سابقيه في عدم الوثاقة .
3- 3) الصفحة : 268 .

و أمّا على القول بعدم جوازها ، فيمكن القول باختصاص الحكم بما كان المطلوب منه الشرب و الإسكار ، و أمّا الكحول التي لها منافع اخر كالتعقيم و غير ذلك من المصالح و الأغراض النوعيّة ، فلا يحرم بيعها .

و ذلك واضح بناءً على كون مدرك التعدّي على الخمر هو الإجماع ، و تنقيح المناط ، و أمّا بناءً على كون المدرك الروايات الخاصّة ، فلانصرافها عنه ، كما ادّعاه المحقّق النائيني (ره) (1).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : طهارة الكحول الصناعيّة ، و جواز المعاملة عليها .

ص:278


1- 1) منية الطالب : 30/1 .

المسألة الثامنة عشر التصوير الفوتغرافي

اشارة

و تقرأ فيها :

الموقف الفقهي من تصوير الصور غير المجسّمة

الموقف الفقهي من التصوير الفوتوغراقي

الرؤية الفقهيّة لتمكين المصوّر من التصوير

الموقف الفقهي من اقتناء الصور و بيعها

حكم النظر إلى الصور

ص:279

ص:280

من الاُمور الشائعة و المستحدثة في هذا الزمان : التصوير بالآلة المصوّرة ( الكاميرا ) ، و الذي يتمّ بوقوف الإنسان - مثلاً مقابل الآلة ، فيقع ظلّه عليها من جهة كونه حائلاً بينها و بين النور ، و يثبت فيها بالدواء ، ثمّ تؤخذ الصورة من ذلك الظلّ المحفوظ هناك .

فلا بدّ لنا من بيان موقف الشريعة الإسلاميّة منها ، و من المعاملة الواقعة عليها ، و تنقيح الكلام بالبحث في موارد :

1 - الأوّل : في حكم تصوير الصور بغير المجسّمة .

2 - الثاني : إمكان تطبيق الصور غير المجسّمة على الصور الفوتوغرافيّة .

3 - الثالث : حكم اقتناء الصور غير المجسّمة ، و المعاملة عليها .

4 - الرابع : حكم النظر إلى صورة غير المماثل .

الموقف الفقهي من تصوير الصور غير المجسّمة :

أمّا المورد الأوّل : فلا إشكال و لا كلام في حرمة التصوير في الجملة ، و في الجواهر (1): بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المنقول منه مستفيض ، و الأقوال في هذه المسألة خمسة :

ص:281


1- 1) جواهر الكلام : 41/22 . [1]

أحدها : حرمة التصوير مطلقاً ، سواء كانت مجسّمة أم غير مجسّمة ، و سواء كانت لذوات الأرواح أم غيرها ، و عن المختلف : نسبة هذا القول إلى ابن البرّاج ، و ظاهر أبي الصلاح (1).

ثانيها : حرمة التصاوير مطلقاً ، إذا كانت مجسّمة ، و قد نسب ذلك إلى الشيخين ، و سلّار (2).

ثالثها : حرمة تصاوير ذوات الأرواح ، سواء كانت مجسّمة أم غيرها ، اختاره الشيخ الأعظم (ره) وفاقاً لجماعة من الأساطين على ما نقله عنهم (3).

رابعها : حرمة تصاوير ذوات الأرواح مطلقاً و غيرها ، إذا كانت مجسّمة .

خامسها : حرمة تصاوير ذوات الأرواح إذا كانت مجسّمة ، و هذا هو المتّفق عليه بينهم ، و قد اختاره جمع من المعاصرين (4)، و ممّن يقرب عصرنا (5).

و النصوص الواردة في المقام على طوائف :

1 - الطائفة الاُولى : ما استدلّ به على حرمة التصاوير مطلقاً ، مجسّمة كانت

ص:282


1- 1) مختلف الشيعة : 13/5 ، و لاحظ : المهذّب / ابن البرّاج (قدس سره) : 344/1 ، الكافي في الفقه / أبو الصلاح الحلبي (قدس سره) : 281 .
2- 2) نسبه إليهما في مختلف الشيعة : 14/5 ، فراجع المقنعة / الشيخ المفيد (قدس سره) : 587 ، و النهاية / الشيخ الطوسي (قدس سره) : 363 ، و المراسم / الشيخ سلّار (قدس سره) : 172 .
3- 3) المكاسب : 183/1 ، و قد حكاه عن ظاهر النهاية و صريح السرائر ، و المحكيّ عن حواشي الشهيد ، و الميسيّة ، و المسالك ، و إيضاح النافع ، و الكفاية ، و مجمع البرهان ، و غيرها .
4- 4) من جملة من اختاره : السيّد أحمد الخوانساري (قدس سره) في جامع المدارك : 15/3 ، و السيّد الگلپايگاني (قدس سره) في هداية العباد : 340/1 ، و أفتى به سماحة السيّد الاُستاذ دام ظلّه ) في تعليقته على منهاج الصالحين : 7/2 .
5- 5) من جملة من اختاره الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) في جواهر الكلام : 42/22 . [1]

أم غيرها ، ذوات الأرواح أم غيرها .

كخبر محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، عن أبيه ، عن آبائه (ع) ، قال : قال أمير المؤمنين (ع) : « إيّاكم و عمل الصور ، فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة » (1).

و خبر الأصبغ بن نباتة ، عنه (ع) : « مَن جدّد قبراً ، أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام » (2).

و خبر الحضرمي ، عن عبد اللّه بن طلحة ، عن الإمام الصادق (ع) : « مَن أكل السحت سبعة ، إلى أن قال : و الذين يصوّرون التماثيل » (3)، و نحوها غيرها .

و فيه : إنّ خبر محمّد بن مسلم ضعيف بالقاسم بن يحيى ، فإنّه و إن كان كثير الرواية ، و الأصحاب أفتوا بمضامين رواياته ، و الأجلّاء كأحمد بن محمّد بن عيسى ، و غيره يروون عنه ، و لم يضعّفه شيخ من المشايخ العظام الماهرين بأحوال الرجال غير ابن الغضائري و العلّامة 0 (4)، إلّا أنّه لم يوثّق ، و ذلك بضميمة تضعيف العلمين ، كافٍ في عدم قبول روايته (5).

ص:283


1- 1) مستدرك الوسائل : الباب 75 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 . [1]
2- 2) التهذيب : 130/1 ، باب دفن الميّت . الوسائل : الباب 3 من أبواب المساكن ، الحديث 10 . [2]
3- 3) مستدرك الوسائل : الباب 75 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 2 . [3]
4- 4) قال ابن الغضائري في رجاله : القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد ، مولى المنصور ، روى عن جدّه ، ضعيف . و قال العلّامة الحلّي (قدس سره في خلاصة الأقوال : القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد ، مولى المنصور ، روى عن جدّه ، ضعيف .
5- 5) و قد عدل سماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) عمّا بنى عليه من عدم وثاقة القاسم بن يحيى ، إلى القول بعدم ضعفه ، حيث قال في فقه الصادق : 219/14 ، و [4]منهاج الفقاهة : 272/1 : [5] إنّ ابن الغضائري و إن ضعف الرجل ، و تبعه العلّامة في الخلاصة ، إلّا أنّه يمكن عدّه من الحسان ؛ لأنّ الرجل كثير الرواية ، و الأصحاب أفتوا بمضامين رواياته ، و الأجلّاء كأحمد بن محمّد بن عيسى و غيره يروون عنه ، و هذا يشير إلى اعتمادهم عليه ، و لم يضعّفه شيخ من المشايخ العظام الماهرين بأحوال الرجال ، على ما ذكره المولى الوحيد ، و هذه بضميمة كثرة خطأ ابن الغضائري في التضعيفات ، و عدم بناء العلّامة في الخلاصة على التدقيق ، توجب الاطمئنان بعدم ضعفه .

مع أنّه يمكن أن يقال : بعدم العلم بظهور الصورة فيما يشمل غير المجسّمة ، بل لا يبعد ظهورها في المجسّمة ، من جهة مقابلة النقش للصورة في بعض النصوص - كما في حديث المناهي الآتي ذكره و من المعلوم بأنّ النقش غير الجسم دائماً ، لأنّ النقش صورة لجانب من جوانب ذي الصورة أو صورة جزء منه ، لا صورة حيوان تامّ ، فتختصّ الصورة بالمجسّمة ، بقرينة المقابلة .

و أمّا خبر الأصبغ ، فمضافاً إلى ضعف سنده بأبي الجارود فإنّه و ما بمضمونه من الأخبار مختصّة بالمجسّمة ؛ لظهور المثال فيها ، من ناحية أنّ مثال الشيء عبارة عن مماثله من جميع الجهات الستّ .

و أمّا خبر الحضرمي ، فهو أيضاً ضعيف لعبد اللّه بن طلحة ، و لعدم ثبوت اعتبار كتاب الحضرمي .

مع أنّه و ما بمضمونه أيضاً من الأخبار مختصّة بالمجسّمة ، فإنّ مفادها جعل التماثيل و عملها ، فيكون مفادها مفاد ما تقدّمها .

2 - الطائفة الثانية : ما يكون ظاهراً في حرمة التصاوير ، إذا كانت مجسّمة مطلقاً ، و هي النصوص الناهية عن التمثال ، المتقدّم بعضها .

و لكنّها ضعيفة السند بأجمعها .

3 - الطائفة الثالثة : ما يكون ظاهراً في حرمة تصاوير ذوات الأرواح مطلقاً .

ص:284

مثل ما رواه الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد ، عن الحسين بن زيد ، عن الإمام الصادق (ع) ، عن آبائه (ع) في حديث المناهي ، قال : نهى رسول اللّه (ص) عن التصاوير ، و قال : « من صوّر صورة كلّفه اللّه تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها ، و ليس بنافخ ، إلى أن قال : و نهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم » (1).

و خبر سعيد بن طريف ، عن مولانا الباقر (ع) : « إنّ الذين يؤذون اللّه و رسوله هم المصوّرون ، يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح » (2)، و نحوهما غيرهما .

أمّا نصوص نفخ الروح : فهي كما تختصّ بذوات الأرواح من جهة أنّ الظاهر منها أنّ عدم القدرة على النفخ في الصورة ، إنّما يكون لعجز النافخ ، و عليه فلا بدّ أن يكون المحلّ في نفسه قابلاً لذلك ، كذلك تكون مختصّة بالمجسّمة من جهة أنّ الظاهر منها : حرمة تصوير ما لو نفخ فيه الروح لصار حيواناً متعارفاً ، و لا يكون المنفوخ فيه ناقصاً عن مشابهه من المخلوقات بحسب الشكل و الجثّة ، إلّا من حيث الروح ، فيؤمر بتتميمه بنفخ الروح فيه .

و أمّا ذيل خبر ابن واقد : « و نهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم » ، فهو و إن كان دالّاً على ما ذكر ، إلّا أنّه ضعيف السند لشعيب بن واقد .

4 - الطائفة الرابعة : ما يدلّ على حرمة تصاوير ذوات الأرواح إذا كانت مجسّمة ، و جواز تصاوير غيرها مطلقاً .

كصحيح البقباق ، عن سيّدنا الصادق (ع) في قول اللّه عزّ و جلّ : ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ ) (3)، فقال : « و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء ،

ص:285


1- 1) الوسائل : الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 6 . [1]
2- 2) الوسائل : [2] كتاب الصلاة ، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن ، الحديث 12 .
3- 3) سورة سبأ : الآية 13 . [3]

و لكنّها الشجر و شبهه » (1)، فانّ ذكر الرجال و النساء فيه إنّما يكون من باب المثال ، و يشهد له ذيله .

و صحيح زرارة ، عن الإمام الباقر (ع) : « لا بأس بتماثيل الشجر » (2).

و صحيح محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر ؟ فقال (ع) : « لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان » (3).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ النصوص المعتبرة متّفقة على حرمة تصاوير ذوات الأرواح إذا كانت مجسّمة ، و الطائفة الرابعة تدلّ على جواز تصاوير غيرها ، فعلى فرض وجود مطلق دالّ على حرمة التصوير مطلقاً يقيّد إطلاقه بها .

الموقف الفقهي من التصوير الفوتغرافي :

و أمّا المورد الثاني : فعلى ما اخترناه من جواز التصاوير إذا لم تكن مجسّمة ، لا إشكال في الجواز ، كما هو واضح ، و أمّا على القول بحرمة تصوير غير ذي الروح ، و إن لم يكن مجسّماً ، فقد يقال : بجواز أخذ الصورة أيضاً .

و محصّل ما ذكره بعض الأساطين (4)في وجه ذلك وجوه :

1 - إنّه ليس إيجاداً للصورة المحرّمة ، فإنّ الإنسان إذا وقف في مقابل الآلة المصوّرة يقع ظلّه على الآلة ، و يثبت فيها بالدواء ، فتكون صورة لذي ظلّ .

2 - إنّ لازم القول بحرمة ذلك ، القول بحرمة النظر إلى المرآة ؛ إذ لا فرق في حرمة

ص:286


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب التجارة ، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 2 .
3- 3) الوسائل : [3] كتاب التجارة ، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 3 .
4- 4) المحقّق الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة : 233/1 . [4]

التصوير بين بقاء الصورة مدّة قليلة أو مدّة مديدة .

3 - إنّه قد اشتهر انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز في بعض الأحيان ، فهل يحتمل أن يتفوّه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الحين ، و أي فرق بينه و بين أخذ الصورة ! ؟

و في الجميع نظر :

أمّا الأوّل : فلأنّ في أخذ الصورة بالآلة أمرين : الأوّل : ما ذكروه من وقوع الظلّ على الآلة و إثباته فيها بالدواء . الثاني : أخذ الصورة من ذلك الظلّ المحفوظ هناك . و الأوّل لا تصدق عليه الصورة ، و إنّما هو عكس الصورة ، و لهذا لا يحرم ، و أمّا الثاني ، فهو صورة حقيقة ، و يصدق على فعله أنّه إيجاد للصورة .

و أمّا الثاني : فلأنّه يمكن أن يقال : إنّ الإبصار ليس بالانطباع ، بل إنّما هو بخروج الشعاع ، فيكون المبصر - بالفتح الإنسان نفسه لا صورته .

و أمّا الثالث : فإنّه على القول بحرمة التصاوير ، و إن لم تكن مجسّمة ، لا مانع من الالتزام بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت اختياراً بقصد تحقّق الصورة ، و إن أبيت إلّا عن عدم حرمته ، فليكن ذلك دليلاً على ضعف المبنى .

فتحصّل : أنّه على القول بحرمة التصوير مطلقاً ، يحرم أخذ الصورة بالآلة ، أي: العمل الثاني الذي يعمله المصوّر ، و لكن قد عرفت اختصاص الحرمة بالمجسّمة ، فلا إشكال في الجواز .

الرؤية الفقهيّة لتمكين المصوّر من التصوير :

ثمّ إنّه بناءً على ما اخترناه من جواز أخذ الصورة ، لا إشكال في جواز التمكين منه .

ص:287

و أمّا على القول بعدم الجواز ، فهل يجوز التمكين منه أم لا؟ وجهان : أقواهما الأوّل ، فإنّ ما يتحقّق بالوقوف في مقابل الآلة المصوّرة ، و يبقى بواسطة الدواء ، إنّما هو العكس لا الصورة ، و ما يؤخذ من ذلك العكس بالعمل الثاني غير مرتبط به ، فلا وجه للقول بالحرمة ، نظراً إلى أنّ تحقّق الصورة إنّما يكون بفعلهما معاً .

و دعوى : أنّ الوقوف في مقابل الآلة يكون إعانة على الإثم ؛ إذ لو لا ذلك لما تمكّن المصوّر من أخذ الصورة ، فيحرم لهذه الجهة .

مندفعة : بما تقدّم من أنّ الإعانة على الإثم في غير الموارد الخاصّة التي ليس المقام منها ، لا دليل على حرمتها (1).

مع أنّ صدقها على فعل ما يكون من قبيل إيجاد الموضوع ، محلّ تأمّل و منع .

حكم اقتناء الصور و بيعها :

و أمّا المورد الثالث : فعلى ما اخترناه من جواز أخذ الصورة ، لا ينبغي التوقّف في جواز إيقاع المعاملة عليها ، فإنّه مقتضى العمومات و الإطلاقات من الآيات و الروايات الواردة في جواز الاكتساب بأي نحو كان ، إلّا ما خرج بالدليل .

و أمّا على القول بعدم الجواز ، فيمكن الاستدلال لجوازه بوجهين :

الوجه الأوّل : إنّ التصوير و إن فرض كونه حراماً ، إلّا أنّ اقتناء الصورة و التزيين بها جائز ، فإذا جاز ذلك ، كانت الصورة ممّا له فائدة و منفعة محلّلة ، فيجوز إيقاع المعاملة عليها .

أمّا جواز اقتنائها ، فتشهد له جملة من النصوص :

ص:288


1- 1) راجع الصفحة : 251 . [1]

كصحيح الحلبي ، عن أبي عبد اللّه (ع) : « ربّما قمت فاُصلّي ، و بين يدي الوسادة ، و فيها تماثيل طير ، فجعلت عليها ثوباً » (1)، و ظهوره في جواز الاقتناء لا يقبل الإنكار ، و حمله على ما إذا كان هناك مانع عن الإزالة ، خلاف الظاهر قطعاً .

و مرسل ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه (ع) في التمثال يكون في البساط ، فتقع عينك عليه و أنت تصلّي ؟ فقال (ع) : « إن كان بعين واحدة فلا بأس ، و إن كان له عينان فلا » (2)، فإنّه ظاهر في أنّ المنع إنّما هو لأجل الصلاة ، و هو يرتفع إذا كان بعين واحدة ، و احتمال وروده في مقام بيان حكم الصلاة خاصّة ، و أنّه لا ينافي حرمة الاقتناء ، خلاف الظاهر جدّاً .

و صحيح محمّد بن مسلم ، عن الإمام الباقر (ع) ، قال : قال له رجل : رحمك اللّه ، ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم ؟ فقال : « هذا للنساء أو بيوت النساء » (3)، و نحوها غيرها ، و بهذه النصوص تصرف النصوص (4)الظاهرة في المنع عن الاقتناء عن ظاهرها ، و تحمل على الكراهة .

فإذا ثبت جواز اقتنائها فهي ممّا له منفعة محلّلة ، و يكون مقتضى العمومات جواز إيقاع المعاوضة عليها .

الوجه الثاني : إنّ نصوص اقتناء الوسائد التي فيها الصور ، تدلّ على جواز إيقاع المعاوضة ، فإنّها تشترى من السوق غالباً .

كخبر أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : سألته عن الوسادة و البساط

ص:289


1- 1) الوسائل : الباب 32 من أبواب مكان المصلّي ، الحديث 2 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 32 من أبواب مكان المصلّي ، الحديث 6 . [2]
3- 3) الوسائل : [3] كتاب الصلاة ، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن ، الحديث 6 .
4- 4) لاحظ : الوسائل : الباب 3 و 4 من أبواب أحكام المساكن . [4]

يكون فيه التماثيل ؟ فقال : « لا بأس به يكون في البيت » (1)، و نحوه غيره من الأخبار الكثيرة .

حكم النظر إلى الصور :

أمّا المورد الرابع : و هو أنّه هل يجوز للرجل أن ينظر إلى صورة المرأة التي لا يجوز له النظر إليها نفسها ، و هل يجوز للمرأة النظر إلى صورة الرجل الذي لا يحلّ لها النظر إليه ، أم لا؟ فيه أقوال .

ثالثها : التفصيل بين كون المنظور إليه معيّناً و معروفاً عند الناظر ، و بين كونه صورة لغير معروف ، فيجوز في الثاني دون الأوّل .

و قد استدلّ لعدم الجواز بعموم الآية الشريفة : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (2)، و : ( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) (3)، فإنّها متضمّنة للأمر بغضّ البصر ، و لم يذكر فيها متعلّقه ، و لم يخصّه بالنظر إلى المرأة نفسها ، و هذه آية العموم ؛ لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، فمقتضى الآية الكريمة عدم جواز النظر إلى الصورة مطلقاً .

و فيه :

إنّ الغضّ ليس بمعنى ترك النظر ، بل أصل الغضّ النقصان ، يقال : غضَّ عن صلاته و من بصره ، أي: نقص ، و منه حديث عمرو بن العاص - لمّا مات عبد الرحمن بن عوف : هنيئاً لك خرجت من الدنيا ببطنتك ، لم تتغضّض منها

ص:290


1- 1) الوسائل : الباب 4 من أبواب أحكام المساكن ، الحديث 2 . [1]
2- 2) سورة النور : الآية 30 . [2]
3- 3) سورة النور : الآية 31 . [3]

بشيء ، و منه قوله تعالى : ( وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) (1)، أي: انقص من جهارته (2).

مع أنّه لو سلّم كون المراد به في الآية الشريفة ترك النظر ، فحيث إنّ في كلمة « من » وجوهاً ، كونها لابتداء الغاية ، و كونها مزيدة ، و كونها للتبعيض ، فالأظهر - سيّما بملاحظة أنّه لا يجب الغضّ من كلّ شيء ، و الالتزام بالتخصيص يوجب تخصيص الأكثر هو الأخير ، و عليه : فلا بدّ من التقدير ؛ لأنّهم قالوا : إنّ من التبعيضيّة تعرف بأن يكون هناك شيء ، هو بعض المجرور ب « من » ، إمّا ظاهراً كما في قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (3)، أو مقداراً ، مثل : أخذت من الدراهم ، أي: شيئاً .

و التقدير في الآية : يغضّوا من أبصارهم شيئاً ، و بما أنّ التبعيض بلحاظ البصر لا معنى له ، فلا بدّ و أن يكون باعتبار المبصرات .

فالمتحصّل من الآية : لزوم غضّ البصر عمّا يحرم ، أو عن بعض المواضع .

و لعلّه لذلك فسّر الآية الشريفة في مجمع البيان (4)بلزوم الغضّ عمّا لا يحلّ لهم النظر إليه ، و نُسب ذلك إلى الزمخشري أيضاً (5).

فإن قيل : إنّ لازم ذلك إجمال الآية ، و عدم استفادة شيء منها .

أجبنا عنه : بأنّ المتيقّن ، بل الظاهر منها بقرينة ما قبلها من الآيات ،

ص:291


1- 1) سورة لقمان : الآية 19 . [1]
2- 2) النهاية / ابن الأثير : 371/3 .
3- 3) سورة التوبة : الآية 103 . [2]
4- 4) مجمع البيان : 241/7 .
5- 5) الكشّاف : 70/3 .

و ما في ذيلها ، هو : النظر إلى الأجنبيّة نفسها ، أو العورة منها و من المماثل .

و قد يستدلّ أيضاً لعدم لجواز بالعلم بعدم الفرق بين النظر إلى المرأة و صورتها ؛ لأنّها هي بعينها ، فالنظر إليهما سيّان بحسب الارتكاز .

و هذا الوجه ليس بعيداً ، سيّما فيمن تُعرف من الأجنبيّات .

و لو لم يتمّ ذلك أيضاً ، يتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة ، المقتضية لجواز النظر مطلقاً .

ص:292

المسألة التاسعة عشر حقّ التأليف

اشارة

و تقرأ فيها :

ثبوت حقّ التأليف

بحث حول حقيقة الماليّة

بحث حول حقيقة ( الملكيّة ) و أقسامها و مراتبها

الموقف الفقهي من المؤلّفات المطبوعة بغير إذن مؤلّفيها

الموقف الفقهي من بيع حقّ التأليف

ص:293

ص:294

من الموضوعات التي لم تكن في عصر صاحب الشريعة الخالدة ، و عصور الأئمّة (ع) ، و حدثت بعد ذلك : الطبع ، أي: طبع المؤلّفات و نشرها ، و لا كلام في أنّه بنفسه أمر سائغ ، و في بعض الموارد مطلوب ، كما لا كلام في أنّه إذا تصدّى المؤلّف للطبع ، و بذل ما يتوقّف عليه ذلك من المال ، تكون المطبوعات له .

و إنّما الكلام في موارد :

1 - المورد الأوّل : في أنّه هل للمؤلّف منع الغير من طبع مؤلّفاته ، فلا يسوغ للغير التصدّي لذلك ما لم يأذن له ، أم ليس له ذلك ؟

2 - المورد الثاني : في أنّه إذا تصدّى الغير للطبع بلا إذن المؤلّف ، بل و مع منعه ، هل تكون المطبوعات بأجمعها للمتصدّي للطبع ؟ أم للمؤلّف شيء منها ؟

3 - المورد الثالث : هل للمالك أن يعطي هذا الحقّ للغير ، و يأخذ بإزائه شيئاً ، أم لا؟

ثبوت حقّ التأليف :

أمّا المورد الأوّل : فتنقيح القول فيه يتوقّف على بيان امور :

1 - بيان حقيقة المال .

2 - بيان الإضافة الملكيّة و أقسامها .

3 - بيان مراتب الملكيّة .

ص:295

حقيقة المال :

أمّا الأوّل : فقد أشبعنا الكلام فيه في المسألة الثالثة من المسائل المستحدثة ، و بيّنا أنّ ماليّة الأشياء تكون على نحوين :

الأوّل : ما تكون ماليّته ذاتيّة ، أي: تنتزع من نفس الشيء ، نظراً إلى أنّ فيه منفعة عائدة إلى الإنسان ، و يكون في حدّ ذاته ممّا يميل إليه النوع ، و يبذلون بإزائه شيئاً ، و بعبارة اخرى : كونه ذا منفعة عائدة إلى الإنسان .

الثاني : ما تكون ماليّته اعتباريّة و جعليّة ، كالنقود ، و له أقسام بيّناها في تلك المسألة (1).

حقيقة الإضافة الملكيّة و أقسامها :

و أمّا الأمر الثاني : فحقيقة الملكيّة هي السلطنة و الإحاطة ، و لها أقسام و مراتب .

أمّا أقسامها :

فهي قد تكون إضافة ذاتيّة تكوينيّة ، و قد تكون عرضيّة تحصل بالاُمور الخارجيّة ، أمّا الاُولى : فكالإضافة الحاصلة بين الإنسان و نفسه و ذمّته ، و أعماله و نتائج أعماله ، فإنّها مملوكة له بالملكيّة الذاتيّة .

و المراد بالذاتي : ما لا يتوقّف تحقّقه على أمر خارجي تكويني أو اعتباري ، لا الذاتي في باب الكلّيات الخمس ، و هو الجنس و الفصل ، و لا الذاتي في باب البرهان ، و هو ما ينتزع من مقام الذات .

و المراد بالملكيّة : السلطنة و الإحاطة ، لا الملكيّة الاعتباريّة .

ص:296


1- 1) راجع : الصفحة 45 .

و الشاهد على كون هذه الأشياء مملوكة بالملكيّة الذاتيّة للإنسان ، السيرة القطعيّة العقلائيّة ، بل الضرورة و الوجدان ، فإنّها حاكمة بأنّ الإنسان مسلّط على نفسه و عمله ، و بديهي أنّ الشارع الأقدس أمضى هذه السلطنة ، و لم يمنع النّاس عن التصرّف الراجع إلى أنفسهم و أعمالهم .

و قد تكون أي الإضافة عرضيّة ، و هي ربّما تكون إضافة أوّلية استقلاليّة ، أي: إضافة لم تسبق إضافة ذلك المال إلى غيره ، و لا تكون بلحاظ تبعيّتها لغيرها ، كالإضافة الحاصلة بالعمل ، أو الحيازة ، أو هما معاً .

و الأوّل : كالعمل الذي يعمله الإنسان فيحصِّل منه المال ، كما لو جعل الخشب سريراً ، فإنّ الصورة السريريّة توجب تحقّق إضافة ماليّة اخرى وراء الماليّة المتقوّمة بالخشب ، و هي إنّما حصلت بالعمل .

و الثاني : كحيازة المباحات التي قام بناء العقلاء على كونها مملكة .

و الثالث : كمن حاز شجراً أو تراباً ، فجعله سريراً أو كوزاً .

و ربّما تكون أوليّة تبعيّة ، كالإضافة الحاصلة بين الإنسان و نتائج أمواله ، فإنّها تضاف إلى مالك الاُصول بتبع ما حصلت منه .

و ربّما تكون الإضافة ثانوية ، و هي على قسمين : قهريّة و اختياريّة .

و الاُولى : كالإضافة الحاصلة بالإرث .

و الثانية : كالإضافة الحاصلة بالمعاملات .

و أمّا مراتبها ، فهي أربع :

مراتب الملكيّة :

1 - الملكيّة الحقيقية : و هي عبارة عن السلطنة التامّة ، بنحو يكون زمان

ص:297

أمر المملوك بيد المالك حدوثاً و بقاءً ، و هي مخصوصة باللّه تعالى .

2 - الملكيّة الذاتيّة : و هي الحاصلة بين الشخص و نفسه و عمله و ذمّته ، و قد تقدّم - قريباً بيان المراد بالذاتي ، و هذه المرتبة من الملكيّة دون مرتبة الواجديّة الحقيقيّة المختصّة باللّه تعالى .

3 - الملكيّة المقوليّة : و هي عبارة عن الهيئة الحاصلة من مثل التعمم و التقمّص ، و ما شاكل .

4 - الملكيّة الاعتباريّة : و هي التي يعتبرها العقلاء أو الشارع لشخص خاصّ من جهة المصلحة الداعية إلى ذلك .

فإذا تمّت هذه التمهيدات : فمن ألّف شيئاً ، يكون ذلك الشيء نتيجة أعماله و تفكيره ، و يكون مملوكاً له و تحت سلطنته ، و له منع الغير من التصرّف فيه بالطبع و النشر ؛ لأنّ النّاس مسلّطون على أموالهم عرفاً و شرعاً ، و قال رسول اللّه (ص) : « إنّ النّاس مسلّطون على أموالهم » (1).

و لا يتوهّم : أنّا ندّعي أنّ مجموع ما دُوِّن بهذا القيد مملوك لا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه ، حتّى يقال : إنّ النظر إليه و الاستنساخ منه لا يعدّان تصرّفاً فيه ، كي لا يجوزا .

بل ندّعي : إنّ جمع المتشتّتات و الأفكار الجديدة و غير الجديدة ، يكون نتيجة عمل المؤلّف ، و التصرّف فيه عرفاً ، إنّما يكون بالاستنساخ ، و تكثير النسخ ، فلا يجوز ذلك .

فالمتحصّل : أنّ للمؤلّف المنع من ذلك ، بل لا يجوز التصرّف بلا إحراز رضاه .

ص:298


1- 1) عوالي اللئالي : 138/2 .

الوجه في جواز الانتفاع بمؤلّفات الآخرين :

قد يتوهّم : أنّ لازم ما ذكرناه عدم جواز الانتفاع بالكتب المؤلّفة ، و الاستفادة منها لأحد ما لم يحرز رضا صاحبه ، و هو خلاف السيرة القطعيّة .

و لكن يتوجّه عليه : أنّه لا إشكال في حرمة التصرّف في مال الغير من دون رضاه ، كما يشهد به قوله ( عجّل اللّه فرجه ) في خبر الاحتجاج : « فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه » (1).

و قول الإمام الصادق (ع) ، عن رسول اللّه (ص) في موثّق سماعة : « فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم ، و لا ماله ، إلّا بطيبة نفس منه » (2).

و قوله (ص) : في خبر تحف العقول : « و لا يحلّ لمؤمن مال أخيه ، إلّا عن طيب نفسه منه » (3).

و قوله (ص) في خبر عوالي اللئالي : « المسلم أخو المسلم ، لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفسه » (4)، و قول الإمام الرضا (ع) في خبر محمّد بن زيد الطبري ، في جواب السؤال عن الإذن في الخمس ، كتب إليه : « لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه اللّه » (5)، فإنّ الحلّ في اللغة هو الإطلاق و الإرسال ، و إذا اسند ذلك إلى الأعيان الخارجيّة كما في الروايات ، و قوله تعالى : ( وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ) (6)) ، اريد به الترخيص في

ص:299


1- 1) الوسائل : الباب 3 [1] من الأنفال ، الحديث 6 .
2- 2) الوسائل : الباب 3 من أبواب مكان المصلّي ، الحديث 1 . [2]
3- 3) الوسائل : الباب 3 من أبواب مكان المصلّي ، الحديث 3 . [3]
4- 4) مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب مكان المصلّي ، الحديث 1 . [4]
5- 5) الوسائل : الباب 3 من أبواب الأنفال ، الحديث 2 . [5]
6- 6) سورة الأعراف : الآية 157 . [6]

الفعل ، و حيث لا معنى لحلّيّة ذلك إلّا باعتبار ما يناسبه ، و في المقام المناسب هو التصرّف كما صرّح به في التوقيع الشريف ، فالمراد من الروايات : أنّ الشارع الأقدس لم يرخّص في التصرّف في مال امرئ إلّا بطيب نفسه .

إلّا أنّه لا دليل على حرمة الانتفاع ما لم يعدّ تصرّفاً ، بل الظاهر جوازه ، كما في الاستضاءة و الاصطلاء بنور الغير و ناره ، و عليه فمجرّد الانتفاع بالمؤلّفات لا دليل على عدم جوازه ، و المتّبع في صدق التصرّف هو العرف ، و لا ريب في أنّهم يرون نشر المؤلّف تصرّفاً فيه ، و مطالعة الكتاب لا تعدّ تصرّفاً إلّا في الكتاب نفسه .

الموقف الفقهي من المؤلّفات المطبوعة بغير إذن مؤلّفيها :

و أمّا المورد الثاني : فبعد ما عرفت من أنّ مجموع ما الِّف بهذه الصورة نتيجة لعمل المؤلّف و مملوك له بالملكيّة الذاتيّة ، و بما أنّ هناك مالين - إذا طبع شخص مؤلّفات غيره : أحدهما : للمتصدّي للطبع و هو واضح ، و ثانيهما : للمؤلّف ، فإنّ التأليف أوجب تحقّق إضافة ماليّة قائمة بما ألَّف كما تقدّم ، فلا محالة يشتركان في المطبوعات .

فإن قيل : إنّ الماليّة صفة وجوديّة ، و لا بدّ لها من محلّ ، و ما الّف لا وجود خارجي له ، فإنّ ما له وجود لفظي أو كتبي خارجي لا يطبع ، و المحكيّ به لا وجود له .

أجبنا عنه : إنّ المالكية كما عرفت لا تكون من المقولات الخارجيّة ، بل هي متقوّمة برغبة النّاس في الشيء رغبة عقلائيّة .

و لذا يكون الكلّي في الذمّة مالاً ، مع أنّه لا وجود خارجي له ، و قامت الضرورة

ص:300

و الإجماع على أنّ عمل العبد ، و عمل الحرّ بعد وقوع المعاوضة عليه مال (1)) .

و بالجملة : إنّ الماليّة لا مانع من كون محلّها كلّيّاً ، أو عملاً غير موجود .

و على هذا ، فبعد الطبع إن توافقا على شيء فهو ، و إلّا فيعامل مع ما طبع معاملة المال المشترك ، إن رضي المؤلّف بعد ذلك بالنشر ، و أمّا إذا لم يأذن في نشره فإن كان قد أذن في الطبع ثمّ تراجع عن الإذن في النشر ، فلا بدّ أن يغرم ما أنفقه المتصدّي من المال ، إذ المغرور يرجع إلى من غرّه ، و إلّا فلا شيء عليه .

الموقف الفقهي من بيع حقّ التأليف :

و أمّا المورد الثالث : فحيث إنّ ذلك مال عرفاً و شرعاً ، كما تقدّم ، فيصحّ أخذ المال بإزاء إعطائه للغير ، و هذا واضح بناءً على ما تقدّم .

إنّما الكلام في أنّه هل يصحّ جعله مبيعاً أم لا؟

و الأظهر عدم صحّته ؛ إذ يعتبر في البيع كون المبيع من الأعيان ، و المراد بالعين هو الموجود المتعيّن الخارجي ، و ما لو وجد لكان من المتعيّنات الخارجيّة ، فيشمل الأعيان الخارجيّة ، و الكلّي المشاع ، و الكلّي في المعيّن ، و الكلّي الذمّي ، و تخرج المنفعة و الحقّ .

و يشهد لاعتبار كون المبيع كذلك : أنّ البيع من المفاهيم العرفيّة ، و الإمضاء الشرعي متعلّق به ، و لعلّ اختصاص البيع بنقل الأعيان من الاُمور الواضحة عندهم ، بحسب المتفاهم العرفي .

و الظاهر إلى هذا نظرَ الفقهاء ( قدّس اللّه أسرارهم ) ، حيث استدلّوا للاختصاص :

ص:301


1- 1) لاحظ ما أفاده السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه ) في موسوعته الكبرى فقه الصادق : 200/15 . [1]

تارة : بالتبادر ، و اخرى بصحّة سلب البيع عن تمليك المنفعة بعوض ، و ثالثة : بانصراف الأدلّة إلى ما هو المعهود خارجاً من جعل المعوض في البيع عيناً .

لا يقال : إنّ البيع بحسب متفاهم أهل هذا الزمان و إن اختصّ بنقل الأعيان ، إلّا إنّ المعيار هو عرف زمان الشارع الأقدس .

فإنّه يندفع ذلك :

أوّلاً : لأنّه إذا ثبت ذلك في هذا الزمان فيبنى على كونه كذلك في زمانه (ص) لأصالة عدم النقل ، المعبّر عنها بالاستصحاب القهقري ، الذي على جريانه بناء العقلاء و سيرة العلماء ، و لولاه لانسدَّ عليهم باب الاجتهاد ؛ لعدم إحراز كون الروايات ظاهرة في زمانه (ص) في المعاني التي تكون ظاهرة فيها الآن ، إلّا بذلك .

و ثانياً : إنّ الشكّ في شمول البيع لنقل غير العين ، مانع عن التمسّك بعمومات الصحّة ، ويتعيّن البناء على الاختصاص حينئذٍ لأصالة الفساد .

و يؤيّد ما اخترناه من الاختصاص امور :

1 - استقرار اصطلاح الفقهاء عليه في تعيين الثمن و المثمّن ، يعني : أنّهم إذا أرادوا تمييز البائع عن المشتري ، و الثمن عن المثمّن ، جعلوا مالك العين بائعاً ، و مالك المنفعة - مثلاً مشترياً .

2 - الإجماع .

3 - إنّه لا فرق بين الإجارة و البيع ، إلّا في أنّ البيع لنقل الأعيان ، و الإجارة لنقل المنافع ، بناءً على ما حقّق في محلّه (1)) من أنّ حقيقة الإجارة تمليك المنفعة بعوض .

و استدلّ لعدم الاختصاص بوجهين :

ص:302


1- 1) فقه الصادق : 12/19 . [1]

الأوّل : ما عن المصباح من تعريف البيع بأنّه : مبادلة مال بمال (1)) ، و هذا كما يشمل نقل الأعيان يشمل نقل المنافع .

و فيه : ما حقّق في محلّه (2)) من عدم تماميّة تعريف المصباح ، و عدم حجّيته .

الثاني : إطلاق البيع على نقل المنافع في جملة من النصوص .

منها : النصوص الدالّة على بيع خدمة المدبر ، كخبر السكوني : عن الإمام عليّ أمير المؤمنين (ع) ، قال : « باع رسول اللّه (ص) خدمة المدبر ، و لم يبع رقبته » (3)) ، و نحوه غيره .

و منها : النصوص الدالّة على بيع سكنى الدار ، كموثّق إسحاق بن عمّار ، عن العبد الصالح (ع) ، قال : سألته عن رجل في يده دار ليست له ، و لم تزل في يده و يد آبائه من قبله ، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم ، و لا يدرون لمن هي ، فيبيعها و يأخذ ثمنها ؟ قال (ع) : « ما احبّ أن يبيع ما ليس له » ، قلت : فيبيع سكناها أو مكانها في يده ، فيقول : أبيعك سكناي و تكون في داري كما هي في يدي ؟ قال (ع) : « نعم ، يبيعها على هذا » (4)) .

و منها : النصوص (5)) الواردة في بيع الأراضي الخراجيّة .

و فيه : إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، و أصالة الحقيقة إنّما يرجع إليها لتشخيص المراد ، لا لتعيين الموضوع له ، بعد معلوميّة المراد ، فالأظهر هو الاختصاص .

ص:303


1- 1) المصباح المنير : 41 ، مادة « بيع » .
2- 2) منهاج الفقاهة : 6/3 . [1]
3- 3) الوسائل : كتاب التدبير و المكاتبة و الاستيلاد ، الباب 3 من أبواب التدبير ، [2] الحديث 4 .
4- 4) الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع و شروطه ، الحديث 5 . [3]
5- 5) الوسائل : الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه . [4]

و على هذا فلا يصحّ بيع هذا الحقّ ، أي: جعله مبيعاً .

نعم ، يجوز جعله عوضاً ، و المصالحة عليه ، وهبته ، و ما شاكل .

فالمتحصّل : جواز إعطاء هذا الحقّ للغير ، و أخذ شيء بإزائه ، غاية الأمر يعتبر أن لا يكون الإعطاء بعنوان البيع .

ص:304

المسألة العشرون حقّ امتياز نشر الأخبار

اشارة

و تقرأ فيها :

المقصود من حقّ امتياز نشر الأخبار

ثبوت ( حقّ الامتياز ) للحكومة

تصوير مالكيّة الدول و الحكومات

جواز المعاملة على ( حقّ امتياز النشر )

بحث حول ( الإباحة بالعوض )

تصحيح أخذ الغرامة على نشر الأخبار بغير إذن الدولة

ص:305

ص:306

من الموضوعات التي كثر التساؤل عن حكمها : حقّ امتياز نشر الأخبار ، و لا أدري يقيناً ثبوته خارجاً ، و لكنّ المعروف أنّه ثابت في بعض الأحيان ، كأيّام الحرب ، و قد نقل لي بعض الثقات : إنّه في زمان كانت فيه إيران فوق بركان ، على أثر مناقشة الحكومة مع شركة البترول الانجليزيّة الإيرانيّة ، و التي كانت دولة داخل دولة ، بل لعلّها وحدها أصبحت الدولة في إيران ، و بالتبع مع دولة انكلترا ، و كانت المناقشة حول البترول الذي هو عصب الحرب دون نزاع ، و قد أعطت الحكومة حق الإعلام عن تفاصيل المناقشة المذكورة لبعض الإعلاميّين ، و اتّفق مرّة واحدة أنّ شخصاً آخر غير من له الحقّ ، أرسل خبراً مهماً قبل ذلك المخبر ، فأغرمته الحكومة ، و أعطتها لمن له الحقّ .

موضوع البحث :

و كيف كان ، فموضوع البحث حول ما لو أعطت الحكومة امتيازاً لبعض الإعلاميّين ، بنقل الأخبار المتعلّقة بالدولة ، بحيث إذا أخذ الخبر غيره ، و أخبر به ، يكون مخالفاً و ملزماً بدفع مبلغ خاصّ ، و بإزاء إعطاء هذا الحقّ قد يأخذ مبلغاً معيّناً ، و قد يأخذ امتيازاً آخر .

و تنقيح القول فيه بالبحث في موارد :

1 - المورد الأوّل : في أنّه هل للحكومة منع الغير من نشر الخبر المتعلّق بها

ص:307

أو بالدولة ، فلا يسوغ له النشر مع منعها ، أم لا؟

2 - المورد الثاني : في بيان أنّ الحكومة هل لها إعطاء الحقّ المذكور إلى الغير ، أم لا؟

3 - المورد الثالث : في بيان أنّ الحكومة هل لها أخذ المال بإزاء إعطاء ذلك الحقّ ، أم لا؟

4 - المورد الرابع : في بيان موقف الشريعة ممّا تأخذه الحكومة بعنوان الغرامة .

ثبوت ( حقّ الامتياز ) للحكومة :

أمّا المورد الأوّل : فالحقّ أنّ لها ذلك ، و يظهر ببيان امور :

الأوّل : ما تقدّم في المسألة السابقة (1)) من أنّ حقيقة الملكيّة هي السلطنة و الإحاطة ، و لها أقسام و مراتب ، و إنّ من أقسامها : الملكيّة الذاتيّة ، و هي الإضافة الحاصلة بين المالك و نفسه و ذمّته و أعماله و نتائج أعماله ، فإنّها مملوكة له بالملكيّة الذاتيّة ، و من هذا القبيل قوله تعالى حكاية عن نبيّه موسى (ع) : ( إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي ) (2)) ، و تقدّم أيضاً : أنّ هذه الملكيّة دون الملكيّة الحقيقيّة المختصّة باللّه تعالى .

الثاني : إنّه قد تقدّم في المسألة الثالثة (3)) : أنّ ماليّة الأشياء تكون على نحوين :

أحدهما : ما تكون ماليّته ذاتيّة ، أي: تنتزع من نفس الشيء ، نظراً إلى ما فيه من المنفعة العائدة إلى الإنسان .

ص:308


1- 1) راجع الصفحة : 296 . [1]
2- 2) سورة المائدة : الآية 25 . [2]
3- 3) راجع الصفحة : 45 .

ثانيهما : ما تكون ماليّته اعتباريّة و جعليّة ، كالنقود ، و لهذا القسم أنواع بيّناها هناك .

الثالث : إنّ لكلّ مالك منع غيره من التصرّف في ماله ، و هذا مضافاً إلى وضوحه بيّناه في المسألة السابقة .

مالكيّة الحكومة :

الرابع : إنّ الحكومة التي تمثّل القوّة الحاكمة على الاُمّة ، و هي من الاُمور الاعتباريّة العقلائيّة ، و يعتبرونها لشخص أو لعدّة أشخاص ، قابلة لأن تكون هي المالكة ، فإنّ الملكيّة غير المقوليّة الخارجيّة و الملكيّة الحقيقيّة ، من الاعتبارات ، و الاعتبار لا يحتاج إلّا إلى طرف في افق الاعتبار ، و هو كما يكون عيناً خارجيّة ، يمكن أن يكون كلّياً في الذمّة ، و يمكن أن يكون اعتبارياً ، و لذا ترى إفتاء الفقهاء بأنّ الزكاة و الخمس يملكهما طبيعي المستحقّ لهما ، مع أنّه لم يعتبر وجودهما .

و أيضاً لا خلاف في صحّة تمليك الكلّي الذمّي في بيع السلف و نحوه .

و عليه : فيمكن أن تكون الحكومة ، و هي الهيئة التي تدبّر شأن الاُمّة و تطالب بمصلحتها ، مالكة ، و تكون هي طرف الملكيّة .

و العقلاء يعتبرونها لها ، و الشارع الأقدس لم يردع عن ذلك ، و هو آية الإمضاء .

و إذا انجلت هذه الاُمور : فاعلم أنّ الأخبار المهمّة المرتبطة بالدولة و الاُمّة ، لا ريب في أنّ لها ماليّة تستوفى بنشرها ، و هي مملوكة بالملكيّة الذاتيّة لمن تتّجه إليه المسئوليّة ، و هي الهيئة التي تمثّل القوّة الحاكمة المطالبة بمصلحتها ، فلها منع الغير من التصرّف فيها بنشرها ، فإذا منعت فليس له النشر .

و بذلك يظهر الحال في المورد الثاني ، و هو إعطاء الحقّ إلى الغير ، فإنّه إذا كان

ص:309

ذلك مملوكاً للحكومة ، فلها أن تأذن للغير في التصرّف و النشر .

جواز المعاملة على ( حقّ امتياز النشر ) :

و أمّا المورد الثالث : فالظاهر حلّية ما تأخذه بإزائه ، فإنّه قد عرفت أنّه مال عرفاً و شرعاً ، فيصحّ أخذ المال بإزاء إعطائه للغير .

و هل يصحّ جعله مبيعاً أم لا؟ فيه وجهان : تقدّما في المسألة السابقة ، و قد مرَّ أنّ الأظهر عدم جوازه .

و الظاهر كونه إباحة بعوض ، و حيث إنّ الإباحة بالعوض شائعة في كثير من أعمالنا و معاملاتنا الخارجيّة ، و منها : هذه ، فلا بدّ من تنقيح القول فيها .

الإباحة بالعوض :

و الكلام فيها في مواضع :

1 - في حقيقتها ، و أنّها هل تكون بيعاً ، أو إجارة ، أو صلحاً ، أم معاوضة مستقلّة .

2 - في الدليل على صحّتها و نفوذها .

3 - في أنّها لازمة أم جائزة .

أمّا المورد الأوّل : فلا ريب في أنّها ليست تمليكاً للعين ، و لا للمنافع و لا للانتفاع ، أمّا الأوّلان فواضحان ، و أمّا الأخير فلأنّ الانتفاع قائم بالمباح له ، و من أفعاله ، فكيف يملكه ، و لا من قبيل إعطاء حقّ له ، فإنّ جواز التصرّف من الأحكام التكليفيّة لا من الحقوق ، و على هذا فهي ليست إعطاء شيء بالمباح بإزاء شيء ، فلا تكون بيعاً .

ص:310

و لا تكون نقلاً للمنافع ، فلا تكون إجارة .

و ليست إنشاءً للتصالح و التسالم على أمر كما هو واضح ، فلا تكون صلحاً ، و بعبارة اخرى : إنّ الصلح ليس هو التسالم على أمر ، و إلّا لزم كون جميع المعاملات صلحاً ، بل الصلح المقابل لسائر العقود مسالمة عقديّة و إنشاء للتسالم ، و من الواضح أنّها لا تنطبق على المقام ، فيتعيّن أن تكون معاملة مستقلّة .

و أمّا المورد الثاني : فتشهد لصحّتها وجوه :

أحدها : آية ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1)) ، فإنّ التجارة عبارة عن التكسّب و الاسترباح الشامل للمقام .

ثانيها : السيرة العقلائيّة القائمة على الإباحة بالعوض المسمّى ، كما هو المتعارف في إجارة الدكاكين و الفنادق و ما شاكل ؛ إذ الإنسان يستأجر الدكّان من مالكه شهراً - مثلاً بمبلغ معيّن ، ثمّ يبنيان على أنّه كلّ ما بقي المستأجر يعطي الاُجرة بتلك النسبة ، بل التصرّف في الحمّامات من هذا القبيل ، و هي بضميمة عدم الردع من الشارع الأقدس دليل الصحّة و النفوذ .

و ثالثها : قوله (ص) : « النّاس مسلّطون على أموالهم » (2)) ، فإنّ مقتضى عمومه الأنواعي : أنّ للمالك التصرّف في ماله بجميع أنواعه ، و منها إباحته للغير بالعوض .

فالمتحصّل : أنّها صحيحة و نافذة .

و أمّا المورد الثالث : فيشهد للزومها قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3)) .

ص:311


1- 1) سورة النساء : الآية 29 . [1]
2- 2) عوالي اللئالي : 138/2 .
3- 3) سورة المائدة : الآية 1 . [2]

لا يقال : إنّه يعارض في طرف الإباحة بعموم دليل السلطنة .

فإنّه يتوجّه عليه :

أوّلاً : إنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على ثبوت السلطنة على المال ، و لا يدلّ على السلطنة على العقد ، و الإباحة اللازمة في المقام إنّما هي إباحة عقديّة لا إباحة مستندة إلى الإذن .

و ثانياً : إنّ دلالة الآية الشريفة بالعموم ، و دلالة دليل السلطنة بالإطلاق ، ففي مورد الاجتماع يقدّم الأوّل .

و ثالثاً : إنّ الآية تقدّم ، و على فرض التساقط ، فالمرجع هو استصحاب الإباحة .

فالمتحصّل : أنّ الإباحة بالعوض معاوضة مستقلّة ، صحيحة ، و لازمة .

و هي تنطبق على المقام ، فإنّ الحكومة تبيح لوكالات الأنباء نشر الأخبار ، بإزاء مبلغ توافقان عليه .

تصحيح أخذ الغرامة على نشر الأخبار بغير إذن الدولة :

و أمّا المورد الرابع : فبعد ما عرفت من أنّه مال ، و أنّه للحكومة ، و أنّ التصرّف فيه و استيفاء ماليّته إنّما يكون بالنشر ، فلو نشرته وكالة الأنباء بلا إذن من الحكومة ، بل مع منعها ، تكون ضامنةً ، فما تأخذه بهذا العنوان حلال ، بلا كلام .

ص:312

المسألة الحادية و العشرون المباراة

اشارة

و تقرأ فيها:

الموقف الفقهي من الرياضة البدنيّة

اللعب

اللغو

اللهو

الموقف الفقهي من المباراة بغير رهان

الموقف الفقهي من المباراة مع الرهان

الحكم الوضعي

الحكم التكليفي

الموقف الفقهي من المباراة مع الجائزة غير الرهنيّة

ص:313

ص:314

من الموضوعات الشائعة في هذا العصر : المباراة بأقسامها المختلفة ، و هي بنفسها و إن لم تكن من المستحدثات ، و ليست وليدة الأيّام المتأخّرة ، بل هي موجودة منذ زمن بعيد ، و بعضها له قوانين و نظم خاصّة ، و قد عقد فقهاؤنا له كتاباً ، و هو : السبق و الرماية .

إلّا أنّ أكثر أقسامها الموجودة اليوم ، كالملاكمة ، و كرة القدم مستحدثات ، فيحسن بنا أن نتعرّض لحكمها .

و تنقيح الكلام حولها بالبحث في موارد :

1 - المورد الأوّل : الموقف الفقهي من الرياضة البدنيّة .

2 - المورد الثاني : الموقف الفقهي من المباراة بغير رهان .

3 - المورد الثالث : الموقف الفقهي من المباراة مع الرهان .

4 - المورد الرابع : الموقف الفقهي من المباراة مع الجائزة غير الرهنيّة .

الموقف الفقهي من الرياضة البدنيّة :

اشارة

أمّا الأوّل : فما كان من الرياضة البدنيّة ، مؤدّياً إلى الضرر على النفس بهلاكها أو تلف عضو من الأعضاء فإنّه حرام ؛ لأنّ دفع الضرر واجب عقلاً و شرعاً .

و ما كان منها موجباً لقوّة الجسم ، أو قوّة المجتمع فهو حسن و مطلوب ،

ص:315

فإنّ الشريعة الإسلاميّة المقدّسة تطلب الكثرة القويّة ، و لذلك عنيت بكلّ ما يكفل للإنسان قوّة الجسم ، و قوّة الروح ، و قوّة المجتمع ، فلاحظ الأخبار الواردة في بيان حكمة العبادات (1)) ، و الواردة في بيان حكمة حرمة جملة من المحرّمات ، و كراهة المكروهات ، و ما ورد في تفسير الآية الشريفة : ( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) (2)) ، و غير ذلك من الآثار .

و على الجملة : إنّ سعادة الإنسان ، و هي بلوغه منتهى كماله بحسب نوعه ، معقودة بقوّة جسمه و روحه ، و من الواضح : أنّ للرياضة البدنيّة و الروحيّة أثراً عظيماً في ذلك ، كما أنّه لا شكّ في مطلوبيّة القوّة للمجتمع الإسلامي ، و بما أنّها تتوقّف على جملة من الأعمال ، فتكون هذه الأعمال مطلوبة شرعاً .

و أمّا الرياضات التي لا تترتّب عليها هذه الغايات ، و لا تكون مضرّة ، ففيها خلاف ، و الحقّ أن يقال : إنّ تلك الرياضات على أقسام :

1 - القسم الأوّل : اللعب ، و هو ما يكون بغرض الترويح و الالتذاذ .

ص:316


1- 1) و من ذلك ما صدعت به سيّدة النساء الصدّيقة الشهيدة الزهراء ( أرواح العالمين لها الفداء ) في خطبتها الغرّاء : «فجعل اللّه الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، و الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ، و الزكاة [1]تزكية للنفس ، و نماءً في الرزق ، و الصيام تثبيتاً للإخلاص ، و الحجّ تشييداً للدين ، و العدل تنسيقاً للقلوب ، و طاعتنا نظاماً للملّة ، و إمامتنا أماناً من الفرقة ، و الجهاد عزّاً للإسلام ، و الصبر معونة على استيجاب الأجر ، و الأمر بالمعروف مصلحة للعامّة ، و برّ الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منماة للعدد ، و القصاص حقناً للدماء ، و الوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، و توفية المكاييل و الموازين تغييراً للبخس ، و النهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، و اجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، و ترك السرقة إيجاباً للعفّة» . بحار الأنوار : 223/29 . [2]
2- 2) سورة الأنفال : الآية 60 . [3]

2 - القسم الثاني : اللغو ، و هو ما يكون مجرّداً عن الغاية العقلائيّة .

3 - القسم الثالث : اللهو ، و هو ما يوجب اشتغال النفس باللذائذ الشهويّة .

حكم القسم الأوّل ( اللعب ) :

أمّا الأوّل : فقد استدلّ لحرمته بالمرسل المروي في مجمع البيان عن النبيّ الأعظم (ص) : « كلّ لعب حرام ، إلّا ثلاثة : لعب الرجل بقوسه ، و فرسه ، و أهله » (1)) .

و الظاهر : أنّ مراده ما روي عن النبيّ (ص) في حديث : كلّ لهو باطل إلّا في ثلاث : في تأديبه الفرس ، و رميه عن قوسه ، و ملاعبته امرأته ، فإنّهنّ حقّ » (2)) .

و فيه :

أوّلاً : إنّه ضعيف السند للرفع .

و ثانياً : إنّه يدلّ على أنّ كلّ لهو باطل ، و لا دليل على حرمة الباطل بقول مطلق ، أي : كلّ ما هو باطل .

حكم القسم الثاني ( اللغو ) :

و أمّا المورد الثاني : فقد استدلّ لحرمته بالآية الشريفة : ( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) (3)) .

و بخبر الكابلي ، عن سيّد الساجدين (ع) في تفسير الذنوب التي تهتك العصم :

ص:317


1- 1) مجمع البيان : 328/5 .
2- 2) الوسائل : الباب 1 من كتاب السبق و الرماية ، الحديث 5 . [1]
3- 3) سورة الفرقان : الآية 72 . [2]

« شرب الخمر ، و اللعب بالقمار ، و تعاطي ما يضحك النّاس من اللغو و المزاح ، و ذكر عيوب النّاس » (1)) .

و بوصيّة النبيّ (ص) لأبي ذرّ في حديث : « إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها ، فيهوي في جهنّم ما بين السماء و الأرض » (2)) .

و في الجميع نظر ، أمّا الآية : فلأنّ الظاهر منها ، و لا أقل من المحتمل : عدم إرادة مطلق اللغو منها ، حيث إنّها ليست إلّا في مقام بيان ما يترتّب على التجنّب عن اللغو ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها ، و المتيقّن منها إرادة الغناء .

مع أنّه لا ظهور للآية إلّا في رجحان التجنّب عنه ، و لا تدلّ على لزومه .

أضف إلى ذلك : أنّ الآية في مقام بيان ما يترتّب على الإعراض عن اللغو ، و أنّ الراجح هو المرور باللغو مرور الكرام ، فسبيل هذه الآية سبيل قوله تعالى : ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (3)) ، و قوله تعالى : ( وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) (4)) .

و أمّا خبر الكابلي : فمضافاً إلى ضعف سنده ببكر بن عبد اللّه بن حبيب ، و غيره ، إنّه في مقام بيان الذنوب التي تترتّب عليها خاصيّة هتك العصم ، و المفروغ عن كونها ذنباً ، و ليس في مقام بيان حرمة اللغو .

و إن شئت قلت : إنّ المستفاد منه حرمة اللغو الموجب لهتك عصم النّاس ،

ص:318


1- 1) الوسائل : [1] كتاب الأمر بالمعروف ، الباب 41 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، الحديث 8 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب الحجّ ، باب 140 من أبواب أحكام العِشرة في السفر و الحضر ،الحديث 4 .
3- 3) سورة المؤمنون : الآية 3 . [3]
4- 4) سورة القصص : الآية 55 . [4]

كسخرية المؤمن ، و لا يستفاد منه حرمه مطلق اللغو .

و أمّا الخبر المتضمّن لوصيّته (ص) : فمضافاً إلى ضعف سنده بأبي المفضل محمّد بن عبد اللّه الشيباني ، و رجاء بن يحيى بن الحسين العبرتائي ، و غيرهما ، فإنّ الظاهر منه أنّه ربّما يتكلّم الإنسان بكلمة تكون كذلك ، لا أنّ كلّ مزاح كذلك ، فلعلّ ما شأنه ذلك ما كان من قبيل السخريّة و الغيبة و ما شاكل .

فالمتحصّل : أنّه لا دليل على حرمته أيضاً .

حكم القسم الثالث ( اللهو ) :

و أمّا الثالث : فلا خلاف بين المسلمين في حرمته في الجملة ، بل هي من ضروريّات الدين .

إنّما الكلام في حرمته على وجه الإطلاق .

و قد استدلّ لحرمته كذلك بطوائف من النصوص :

الاُولى : ما دلّ على أنّ اللهو من الكبائر ، كخبر الأعمش ، عن مولانا الصادق (ع) ، حيث عدّ من الكبائر : « الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ ، كالغناء و ضرب الأوتار » (1)) .

و حسن الفضل بن شاذان ، عن الإمام الرضا (ع) : « الاشتغال بالملاهي من الكبائر » (2)) .

بدعوى : أنّ الملاهي جمع الملهى مصدراً ، أو الملهي وصفاً ، لا الملهاة اسم آلة ؛

ص:319


1- 1) الوسائل : الباب 46 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 36 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 46 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 33 . [2]

لأنّه لا يناسب التمثيل بالغناء (1)) .

و فيه :

أوّلاً : إنّ خبر الأعمش ، ضعيف ببكر بن عبد اللّه بن حبيب ، و غيره .

و ثانياً : إنّ الملاهي جمع الملهاة ، اسم الآلة ، و لا صارف عن هذا الظهور ، بل يؤكّده أنّ الظاهر من الباء في صدرها في الخبر الثاني هو : الاستعانة ، و زيادة كلمة الاشتغال قبل كلمة الملاهي ، و عليه فهذه الطائفة تدلّ على أنّ استعمال آلات اللهو حرام ، و لا نزاع في ذلك ، و مناسبته مع التمثيل بالغناء في الأوّل إنّما هي لأجل إرادة الغناء في آلة اللهو .

مع أنّ خبر الأعمش قد قيد الملاهي بما يصدّ عن ذكر اللّه ، أي: يوجب حالة الاحتجاب للنفس ، كالغناء و شبهه ، فلا دلالة على حرمة اللهو المطلق .

الثانية : النصوص المستفيضة الدالّة على حرمة استعمال اللهو و الملاهي (2)) ، كخبر عنبسة ، عن الإمام الصادق (ع) : « استماع اللهو و الغناء يُنبت النفاق ، كما يُنبت الماء الزرع » (3)) .

و فيه : إنّها تدلّ على حرمة استعمال آلات اللهو من المعازف و ما شاكل ، و هذا من الضروريّات ، و محلّ كلامنا حرمة اللهو بقول مطلق .

الثالثة : النصوص (4)) الدالّة على أنّ السفر للصيد اللهوي لا يوجب القصر ،

ص:320


1- 1) المكاسب : 44/2 . [1]
2- 2) الوسائل : الأبواب : 101 و 102 و 103 من أبواب ما يكتسب به .
3- 3) الوسائل : الباب 101 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 . [2]
4- 4) الوسائل : الباب 9 من أبواب صلاة المسافر . [3]

و حيث لا وجه لوجوب إتمام الصلاة سوى كون السفر معصية ، فهي بالالتزام تدلّ على حرمة اللهو .

و فيه : إنّه لا ملازمة بين وجوب الإتمام و كون السفر معصية ، بل هو أعمّ من ذلك .

الرابعة : النصوص الظاهرة بالظهور البدوي في حرمة اللهو ، كخبر عبد اللّه بن علي ، عن عليّ بن موسى ، عن آبائه ، عن الإمام عليّ (ع) : « كلّما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر » (1)) .

و خبر أبي عبّاد ، عن الإمام الرضا (ع) ، قال : سألته عن السماع ؟ فقال : « لأهل الحجاز فيه رأي ، و هو في حيز الباطل و اللهو » (2)) .

و خبر عبد الأعلى ، عن الإمام الصادق (ع) في ردِّ مَن زعم أنّ النبيّ (ص) رخّص في أن يقال : « جئناكم ، حيّونا ، حيّونا ، نحيّيكم » ، قال : « كذبوا ، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول : ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ ) (3)) » (4)) .

و فيه :

أوّلاً : إنّها ضعيفة السند .

و ثانياً : إنّ بعضها يدلّ على حرمة قسم خاصّ منه ، و بعضها يدلّ على أنّ ساحته

ص:321


1- 1) الوسائل : الباب 100 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 15 . [1]
2- 2) الوسائل : الباب 99 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 19 . [2]
3- 3) سورة الأنبياء : الآيتان 16 و 17 . [3]
4- 4) الوسائل : الباب 99 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 15 . [4]

المقدّسة منزّهة عن اللهو ، و بعضها محمول على اللهو الموجب لحصول حالة الاحتجاب للنفس ، و بالجملة : بعد التدبّر فيها يظهر عدم دلالة شيء منها على حرمة مطلق اللهو .

و ثالثاً : قامت الضرورة على جواز اللهو في الجملة ، كاللعب باللحية أو السبحة و ما شاكل ، فعلى فرض ظهورها فيما ذكر ، يتعيّن حملها على إرادة قسم خاصّ منه .

فالمتحصّل : أنّه لا دليل على حرمة اللهو على وجه الإطلاق .

الموقف الفقهي من المباراة بغير رهان :

و هل تجوز المبارة و المغالبة بغير عوض في الأفعال الجائزة ، كرمي الحجارة ، و السير مع السفينة ، أو الطائرة و ما شاكل ، أم لا؟

لا إشكال في جواز المسابقة في بعض الأفعال .

إنّما الكلام في غير ما نصّ على الجواز فيه ، كالمصارعة و المباراة على المراكب و السفن ، و البقر ، و الكلاب ، و الطيور ، و رمي البنادق ، و الوقوف على رِجل واحدة ، و حفظ الأخبار و الأشعار ، و الجري على الأقدام ، و حمل الأثقال و ما شاكل .

و قد استدلّ لعدم الجواز بوجوه :

الأوّل : خبر عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال : سمعته يقول : « لا سبق إلّا في خفّ ، أو حافر ، أو نصل ، يعني النصال » (1)) .

بتقريب : أنّ السبق - بسكون الباء مصدر لكلمة سبقه إلى كذا ، أي: تقدّمه

ص:322


1- 1) الوسائل : الباب 3 من كتاب السبق و الرماية ، الحديث 2 . [1]

و غلبه على كذا ، فالمراد من نفيه نفي المشروعيّة ، و مقتضى إطلاقه عدم مشروعيّة المسابقة بغير رهان .

و فيه :

أوّلاً : إنّ الخبر ضعيف بمعلّى بن محمّد ، فتأمّل ، فإنّه من مشايخ الإجازة (1)) .

و ثانياً : إنّه لم يثبت كون السبق - بسكون الباء بل من المحتمل أن يكون بفتحها ، بل عن الشهيد الثاني : أنّه المشهور (2)) ، و السبق - بالفتح هو العوض و الرهن ، و نفيه ظاهر في إرادة فساد المراهنة لظهوره في نفي استحقاقه ، فلا يصحّ الاستدلال به للإجمال .

الثاني : إطلاق أدلّة القمار ، لأنّه مطلق المغالبة و لو بدون العوض .

و فيه : إنّ القمار لا يصدق بدون الرهان و العوض .

الثالث : ما دلّ على حرمة اللهو .

و قد تقدّم ما فيه ، مع أنّ المسابقة إذا كانت لغرض عقلائي لا تكون لهواً .

فالمتحصّل : أنّه لا دليل على حرمتها ، و الأصل يقتضي الجواز .

مع أنّه تدلّ على جوازها ، مضافاً إلى الأصل ، السيرة القطعيّة القائمة من المسلمين على المباراة في عدّة امور ، كالسباحة و المصارعة و المكاتبة و المشاعرة و غيرها .

ص:323


1- 1) لم يصرّح أحد بكونه من مشايخ الإجازة إلّا العلّامة المجلسي (قدس سره في الوجيزة ، فتأمّل ، و لكن يمكن توثيقه أيضاً بالتوثيق العامّ لابن قولويه (قدس سره) ؛ لكونه من رجال كامل الزيارات ، كما يلتزم بذلك سماحة السيّد الاُستاذ ( دام ظلّه الشريف ) .
2- 2) مسالك الأفهام : 69/6 .

و ما ورد من مصارعة الحسن و الحسين (ع) بأمر النبيّ (ص) ، و مكاتبتهما ، و التقاطهما حبّات قلادة امّهما (س) (1)) .

الموقف الفقهي من المباراة مع الرهان :

المورد الثالث : في المراهنة ، أي: المباراة مع العوض ، بغير آلات القمار ، كالمراهنة على الطيور ، و على الطفرة ، و على نطاح الكباش ، و مهارشة الديكة ، و حمل الحجر الثقيل ، و ما شاكل .

و الكلام فيه في موردين :

1 - في صحّة المعاملة ، و استحقاق العوض ، و عدمها .

2 - في أنّها حرام تكليفاً أم جائزة .

و محلّ الكلام في غير المسابقة في الموارد المنصوصة ، و أمّا فيها و هي :

النصل : الشامل للسهام و الحراب : جمع حربة ، و هي : الآلة و السيف ، و ربّما يزيد النشاب ، و هل يدخل فيه الدبوس ، و العصا ، و المرافق إذا جعل في رأسها حديدة ؟ فيه إشكال .

و الخفّ : و تدخل تحته الإبل و الفيلة .

و الحافر : و تدخل تحته الخيل و البغال و الحمير .

فلا إشكال و لا خلاف نصّاً و فتوى (2)) في جواز السباق عليها ، و صحّة المعاملة الواقعة عليها .

ص:324


1- 1) مستدرك الوسائل : الباب 4 من أبواب السبق و الرماية ، الحديث 1 .
2- 2) راجع : مختلف الشيعة : 255/6 . جواهر الكلام : 217/28 . فقه الصادق : 242/19 . [1]

و هناك موارد وقع الخلاف فيها ، و هي : الطيور و المصارعة .

و محلّ البحث غير هذه الموارد :

و قد استدلّ لجوازها و صحّة المعاملة الواقعة عليها بوجوه :

1 - الآية الشريفة - حكاية عن إخوة يوسف (ع) : ( قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) (1)) ، فإنّها تدلّ على مشروعيّة السباق في شرعهم ، و يشكّ في رفع المشروعيّة و نسخها ، و الأصل بقاؤها .

و فيه : إنّه يتوقّف على عدم ورود منع من الشارع الأقدس ، و لو بنحو العموم ، و إلّا فمع وجود الدليل لا يرجع إلى الأصل ، و ستعرف وجوده .

مع أنّه لا يعلم أنّهم بم كانوا يستبقون ، و لعلّه كان بما يجوز السباق عليه عندنا .

2 - إنّ مقتضى عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2)) صحّة العقد على السباق بكلّ شيء .

و فيه : مضافاً إلى توقّف الاستدلال به على عدم ورود المنع ، و ستعرف وروده ، أنّه يصدق القمار عليه ، و القمار خارج عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

3 - إنّ الحكمة في مشروعيّة هذه المعاملة في الموارد المنصوصة ، هي الاستعداد للجهاد و التهيّؤ له ، و تحصيل القوّة .

و لذا ذهب البعض (3)) إلى خروج الفيلة عن تحت ما يسابق به ، مستدلاً بأنّه لا يحصل به الكرّ و الفرّ .

و ذهب البعض (4)) إلى جواز المسابقة على الطيور و الأقدام و السفن ، معلّلاً

ص:325


1- 1) سورة يوسف : الآية 17 . [1]
2- 2) سورة المائدة : الآية 1 . [2]
3- 3) في الحدائق الناضرة : 363/22 نفاه عن الأصحاب ، و نسبه إلى بعض العامّة و استقربه .
4- 4) حكاه في جواهر الكلام : 219/28 [3] عن بعض العامّة .

بإمكان الاحتياج إلى الطيور في حمل الكتب ، و استعلام حال العدوّ ، و تعارف الحرب على الأقدام ، كتعارفه بالسفن في البحر .

و عليه : فتجوز المسابقة على المراكب ، و آلات الحرب الحديثة ، للعلّة المشار إليها .

و فيه : إنّ حكمة الحكم إذا ذكرت في الدليل بصورة العلّة يتعدّى عنها ، فإنّها بحسب المتفاهم العرفي تمام الموضوع للحكم ، و كأنّه جعل الحكم أوّلاً على ذلك العنوان العامّ ، و إلّا فهي حكمة لا يتعدّى عنها ، و العبرة حينئذٍ بالظهور ، أي: المتّبع ظهور الدليل ، فإذا فرضنا اختصاص الدليل بالثلاثة ، لا وجه للتعدّي عنها .

4 - إنّه روي أنّ النبيّ (ص) سابق عائشة بالقدم مرّتين ، سبَق في إحداهما ، و سُبق في الاُخرى (1)) .

و أنّه (ص) صارع يزيد بن ركانة ، ثلاث مرّات ، كلّ مرّة على شاة ، فصرع خصمه في الثلاث ، و أخذ منه ثلاث شياه (2)) .

و يرد عليه : إنّه لم يثبت شيء من ذلك عندنا ، و لم ترد من طرقنا رواية بذلك ، بل الثابت خلافه .

فالمتحصّل : أنّه لا دليل على الجواز ، بل يدلّ على عدم الصحّة ، وجهان :

الوجه الأوّل : صدق مفهوم القمار عليه ، فإنّه الرهن على اللعب بأي شيء كان ، ففي المجمع : أصل القمار : الرهن على اللعب بشيء (3)) .

ص:326


1- 1) مسند أحمد بن حنبل : 264/6 .
2- 2) سنن البيهقي : 18/10 .
3- 3) مجمع البحرين : 463/3 . [1]

و في القاموس : « تقمّره : راهنه فغلبه » (1)) ، و نحوه ما عن لسان العرب (2)) ، و في المنجد : « القمار كلّ لعب يشرط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئاً ، كان بالورق أو غيره » (3)) .

و هذا المفهوم يصدق على المعاملة المفروضة في المقام ، فتكون باطلة ، و ما يأخذه الغالب من المغلوب حرام .

الوجه الثاني : النصوص الظاهرة في الفساد ، و حرمة التصرّف في الرهن ، و هي طوائف :

منها : ما دلّ على نفار الملائكة عند الرهان ، و لعن صاحبها ، ما خلا الحافر و الخفّ و الريش ، و النصل ، كخبر العلاء بن سيّابة ، عن رسول اللّه (ص) (4)) ، و مرسل الصدوق (5)) ، و خبر أبي بصير (6)) .

لكنّها بأجمعها ضعيفة سنداً ، أمّا الأوّل فلابن سيّابة ، و أمّا الثاني فللإرسال ، و أمّا الثالث فلسعد بن مسلم .

و منها : ما عن ياسر الخادم ، عن الإمام الرضا (ع) ، قال : سألته عن الميسر ؟ قال : «النعل من كلّ شيء » ، قال : «و النعل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم» (7)).

ص:327


1- 1) القاموس المحيط : 125/2 .
2- 2) لسان العرب : 300/11 ، مادة « قمر » .
3- 3) المنجد : 653 ، مادة « قمر » .
4- 4) الوسائل : الباب 3 من أبواب السبق و الرماية ، الحديث 3 . [1]
5- 5) الوسائل : الباب 1 من أبواب السبق و الرماية ، الحديث 6 . [2]
6- 6) الوسائل : الباب 1 من أبواب السبق و الرماية ، الحديث 4 . [3]
7- 7) الوسائل : [4] كتاب التجارة ، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 9 .

و لكنّه أيضاً ضعيف بياسر .

و منها : خبر جابر ، عن الإمام الباقر (ع) ، عن رسول اللّه (ص) ، قيل له : يا رسول اللّه ، ما الميسر ؟ فقال (ص) : « كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب و الجوز » (1)) .

و هو أيضاً ضعيف السند بعمرو بن شمر .

و منها : صحيح ابن خلّاد ، عن أبي الحسن (ع) ، قال : « النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة ، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر » (2)) .

و منها : خبر إسحاق بن عمّار ، عن الإمام الصادق (ع) ، قال : سألته عن الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون ؟ فقال (ع) : « لا تأكل منه ، فإنّه حرام » (3)) .

و المتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ المراهنة و المباراة مع العوض فاسدة ، و ما يؤخذ حرام لا يجوز التصرّف فيه .

حكم المباراة مع العوض تكليفاً :

و أمّا المورد الثاني : فتدلّ على الحرمة أدلّة القمار ، و أمّا سائر النصوص التي تمّ الاستدلال بها في المورد الأوّل ، فهي ظاهرة في الحكم الوضعي ، و لا نظر لها إلى الحكم التكليفي .

و قد يستدل لجوازها التكليفي :

ص:328


1- 1) الوسائل : [1] كتاب التجارة ، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 .
2- 2) الوسائل : [2] كتاب التجارة ، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 1 .
3- 3) الوسائل : [3] كتاب التجارة ، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 7 .

بصحيح محمّد بن قيس عن أبي جعفر (ع) ، قال : « قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أكل و أصحاب له شاة ، فقال : إن أكلتموها فهي لكم ، و إن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا ، فقضى فيه : إنّ ذلك باطل ، لا شيء في المؤاكلة من الطعام ، ما قلّ منه و ما كثر ، و منع عن الغرامة فيه » (1)) .

بدعوى : أنّه متضمّن لفساد المراهنة في الطعام خاصّة ، و لو كانت محرّمة لردع عنها أيضاً ، فيستكشف من عدم الردع الجواز (2)) .

و فيه : إنّ الظاهر كون الخبر أجنبيّاً عن المراهنة بالأكل ، و إنّما يكون مورد الخبر الإباحة المالكيّة ، المشروطة بالالتزام بالإعطاء ، لا الإعطاء .

الموقف الفقهي من المباراة مع الجائزة غير الرهنيّة :

و أمّا المورد الرابع : و هو ما إذا كانت المباراة بين الأفراد ، بلا عوض و رهن ، و لكن المؤسّسة التي هيّأت تلك المباراة ، أو الحكومة تعطي للغالب جائزة ، و لا تأخذ من المغلوب شيئاً ، كما هو المتعارف في هذا الزمان في الملاكمة الشائعة في هذا العصر و غيرها .

فالأظهر : أنّه لا إشكال فيها تكليفاً و لا وضعاً ، إلّا إذا كان الفعل بنفسه حراماً لكونه موجباً لقتل النفس ، أو فساد عضو من الأعضاء كما يحدث في الملاكمة ، بل هي مرغوب فيها شرعاً إذا كانت موجبة لقوّة الجسم ، أو الروح ، فينبغي إذاً ملاحظة الاُمور التالية :

1 - الحكم بالحرمة في الرياضات البدنيّة إذا كانت موجبة لقتل النفس ، أو فساد

ص:329


1- 1) الوسائل : الباب 5 من أبواب كتاب الجعالة ، الحديث 1 . [1]
2- 2) حكاه عن الشيخ الأعظم (قدس سره) في المكاسب : 377/1 .

عضو من الأعضاء ، و قد مرَّ الوجه فيه في المقام الأوّل .

2 - الحكم بعدم الحرمة للرياضات البدنيّة ، إذا لم تكن موجبة لذلك ، و قد مرّ الوجه فيه في المقام الثاني ؛ إذ المفروض أنّ الجائزة لا تجعل عوضاً في تلك المباراة ، بل مجّانية .

3 - مطلوبيّة الرياضة البدنيّة شرعاً إذا كانت موجبة لقوّة الجسم ، أو الروح ، أو المجتمع ، و قد مرّ الوجه فيه في المقام الأوّل .

4 - جواز التصرّف في الجائزة و كونها ملكاً للفائز ، و الوجه فيه واضح ، فإنّ الجائزة لم تجعل في مقابل الفعل ، بل هي مجّانية.

ص:330

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.